صفاء الزين

في اللحظة التي كان يتطلع فيها السودانيون إلى انفراج حقيقي في ملف الانتهاكات، وإلى فتح الباب أمام تحقيق شفاف يضع النقاط على الحروف، خرجت حكومة بورتسودان بقرار يرفض إحالة جرائم الفاشر إلى لجنة تقصّي الحقائق الدولية، معلنة عدم اعترافها بها، ومؤكدة أنها لن تسمح بدخولها. قرارٌ يبدو ظاهريًا دفاعًا عن سيادة الدولة، غير أنه في العمق يكشف شيئًا أكثر خطورة: عدالة تُفصَّل حسب المزاج السياسي، تُستخدم عند الحاجة، وتُلغى عند الضرورة.

فالدولة الواثقة من نفسها لا تخشى التحقيق، والدولة التي تؤمن بمؤسساتها لا تهرب من الرقابة الدولية. أما الدولة التي تتعامل مع العدالة باعتبارها ملكية حزبية أو امتدادًا للسلطة التنفيذية، فترى في أي لجنة مستقلة تهديدًا لمنظومتها، لا لقضائها.

إن رفض حكومة بورتسودان للتحقيق الدولي ليس قرارًا إداريًا، وإنما رسالة سياسية مباشرة: لن نسمح بأي مساءلة لا نتحكم فيها. فالحديث عن آليات وطنية للتحقيق يبدو جميلًا في البلاغة، إلا أنه يفقد قيمته عندما تكون هذه الآليات نفسها جزءًا من الصراع، أو خاضعة لضغوط السلطة، أو محاطة بشبهات واسعة حول استقلالها. فكيف للجنة وطنية أن تحقق في انتهاكات وقعت في ظل سلطة ترفض الرقابة؟ وكيف يتوقع من الضحايا أن يثقوا بمنظومة هي ذاتها جزء من المشكلة؟

العدالة لا تُمنح بقرار سياسي، وإنما تُبنى عبر مؤسسات مستقلة، لا عبر تعليمات تأتي من أعلى. والسلطة التي ترفض الرقابة الدولية باسم السيادة تتجاهل أن السيادة ليست غطاءً للإفلات من العقاب، وأن التعاون مع المجتمع الدولي لحماية المدنيين ليس انتقاصًا من الكرامة الوطنية، وإنما تأكيد لها. أما تحويل السيادة إلى درع يحجب المساءلة، فليس سوى إعادة إنتاج للنهج الذي أغرق البلاد في دوامة الحروب والدماء.

وما يزيد الأمر خطورة أن حكومة بورتسودان باتت تفصل العدالة وفق مصالحها السياسية؛ تلوّح بالمجتمع الدولي حين تريد إدانة خصومها، وحين يقترب التحقيق من مناطق حساسة تستدعي خطاب السيادة وترفض الرقابة. هذا التناقض ليس عفويًا، وإنما يعكس منظومة ترى العدالة أداة سياسية، لا قيمة مؤسسية؛ سلاحًا تفاوضيًا، لا حقًا للضحايا.

ورغم كل ما يُقال عن “بدائل وطنية مستقلة”، تُظهر التجربة السودانية الحديثة أن الأجهزة العدلية الرسمية إمّا مخترقة، أو محاصرة، أو عاجزة عن ممارسة ولايتها على الجهات المتهمة، وهو ما يجعل أي حديث عن تحقيق داخلي أقرب إلى “إدارة أزمة” منه إلى “كشف حقيقة”. فلا يمكن لآليات العدالة الوطنية أن تعمل بفاعلية، بينما الأجهزة الأمنية طرف مباشر في النزاع، ولا يمكنها محاسبة من لا تستطيع الوصول إليه أو السيطرة عليه. وهنا يظهر التناقض الأكبر في خطاب السلطة: فهي تطلب من العالم الثقة، في حين تمتنع من تسليم مجرمين مطلوبين للعدالة الدولية مثل عمر البشير وسدنته، وتواصل في الوقت ذاته حجب المعلومات عن شعبها.

لا سلام يمكن أن يُبنى على إخفاء الملفات، أو إغلاق أبواب التحقيق، أو صناعة روايات رسمية بعيدًا عن الحقائق. والسؤال اليوم ليس: لماذا ترفض الحكومة التحقيق الدولي؟ وإنما: ما الذي تخشاه؟ ولماذا تمنع فتح الملفات؟

إن السودان اليوم بحاجة إلى عدالة حقيقية، لا عدالة تُدار من المكاتب السياسية. بحاجة إلى تحقيق مستقل، لا لجنة تُعيَّن لحماية طرف على حساب آخر. وبحاجة قبل ذلك إلى إرادة وطنية تضع حقوق الضحايا فوق حسابات السلطة. فمن دون مساءلة لا سلام، ومن دون شفافية لا طيّ لصفحة الفوضى، ومن دون مواجهة الحقيقة سيظل السودان ساحة مفتوحة لجرائم جديدة… قد تُرتكب وتُرفض لجان التحقيق فيها أيضًا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.