لقاء الجمعة ما بين عماد آدم و بكري الجاك وروبرت بوتنام و رأس المال الاجتماعي
بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
في مساء يوم الخميس التاسع من يناير للعام 2014 و كنت حينها حديث عهد بالدوحة دُعيت من قبل بعض الأصدقاء لحضور مباراة المريخ و بايرن ميونيخ الألماني في ملعب نادي السد القطري الكائن في منطقة السد ، و لغرابة الأمر فهي منطقة تقابل حياً قطرياً آخراً يسمى حي السودان (فريج السودان) و لكن النسبة فيه ليست للبلد السودان بل لعشيرة قطرية تسكن المكان ، في تلك الأمسية تقاطعت دروبي مع سينيرنا في بولندا الأخ ناصر عبد القادر و هو مهندس معماري كان الدفعة التي قبلنا في تلك البلاد القصيّة ، و بعد المباراة الشيّقة التي جمعت ما لا يقل عن 15 ألف مشجع معظمهم من السودانيين رجالاً و نساءً و أطفالاً و التي انتهت بنتيجة 2 صفر لصالح العملاق البافاري فريق بايرن ميونيخ ، تحدثت مطولاً مع الصديق ناصر و الذي دعاني إن أنضم إليهم في قهوة صباحية تجمع لفيف من الأصدقاء كل يوم جمعة ، اكتشفت لاحقا أن معظمهم من المهندسين ، و لا أذكر بالتحديد إن ذهبت في اليوم التالي أم لاحقاً لكن تلك الدعوة كانت بوابة علاقات و صداقات اجتماعية حميمة كما ساهمت في إرساء أسس عمل عام مثمر ستكمل عامها الحادي عشر بحلول يناير 2025.
فكرة قهوة الجمعة الصباحية ابتكرها الصديق الباشمهندس طارق خليل سليمان أبوقرون ، و من محاسن الصدف فقد كنا دفعة واحدة في السنة الثالثة في مدرسة المؤتمر الثانوية بأمدرمان لكننا لم نتقابل حينها حيث كان مساره الرياضيات الإضافية و كان مساري في الأحياء و لم نتعارف إلا في مدينة الدوحة بعد عقود ، أيضاً ضمّت هذه اللقاءات مجموعة من المهندسين الذين توطدت بينهم علاقات صداقة عميقة بسبب دراستهم في مرحلة ما من حيواتهم في الولايات المتحدة ، مثل الباشمهندس بسّام بابكر ، الشيخ جميل ، قُصي عامر ، فكرة اللقاء أن يكون في صباح الجمعة كي لا يتعارض مع الدور الإجتماعي للآباء من المجموعة للبقاء مع أهلهم خلال بقية هذا اليوم الأسري بامتياز ، و في البدايات الأولى كانت تلك اللقاءات تتم حوالي الساعة 08:30 و إلى ما قبل صلاة الجمعة في مقهى تيم هورتينز في إزدان مول و انتقلت بعد ذلك إلى نفس المقهى في مول الخليج لتستقر و منذ العام 2018 في مول فسيستيفال سيتي وإلى اليوم و الذي ساهم في استقرارها هناك هو وجود مسجد تقام به صلاة الجمعة في نفس المول مما أسهم في إطالة فترة تلك اللقاءات لفترة ما بعد الصلاة لحد كبير ، و قد تتابعت أجيال في تلك اللقاءات لطبيعة تغيير العمل و الهجرة ، حيث ودعنا أصدقاء أفاضل آخرهم الباشمهندس الشاب محمد زكي الذي هاجر إلى كندا البعيدة و أستقبلنا آخرين مثل الباشمهندس البرّاء جمال و الخبير المالي الصديق محمد بشير.
من الأفكار الجميلة التي سبقت تلك اللقاءات و لكنها ساهمت في استمرارها تنسيقاً و تنظيماً إقامة منبر حوار علمي إسمه منبر المهنيين السودانيين في قطر منذ بدايات العام 2013 كانت تقدم فيه بصورة شهرية محاضرات علمية ذات مستوى رفيع في قاعات مركز الطلاب في مؤسسة قطر ، و من بين الذين شاركوا في تلك المحاضرات باشمهندس ياسر صبير بمحاضرة عن مشاريع البنى التحتية العملاقة ، و د. محمد أيوب عن آثار التلوث البيئي و الصناعي في قطر ، و استعرض فيه البعض الآخر بعض الكتب مثل الدكتور الوليد مادبو ، و الباشمنهدس ناصر سيد أحمد و كاتب هذه السطور ، كما تمت خلالها مناقشة موضوعات أخرى متعددة ، بيد أن الاختراق الأكبر كان في السعي لتجويد عمل رابطة المهندسين السودانيين في قطر و الذي توج بانتخابات فبراير 2019 و التي أدت إلى تكوين لجنة تنفيذية مميزة ترأسها بروفيسور نمر عثمان البشير وتكرر انتخاب نفس اللجنة للدورة التي تلتها باقتدار.
في مشهد مشابه ، و إن كان قبل سنوات عديدة و بالتحديد يوم 6 فبراير من العام 1997 وصلت إلى معسكر لطالبي اللجوء بمدينة نايميخين في شرق هولندا و هي مدينة تشتهر بمزاج أهلها اليساري حيث تسمى في الثقافة العامة لتلك البلاد بمدينة هافانا على نهر الفال الذي يتهادى إليها قادما من الحدود الألمانية المتاخمة على بعد 7 كيلومترات تقريباً من مركزها ، وكان في استقبالي هناك الصديق العزيز د. عبد الوهاب همّت و الصديق العزيزالأستاذ عماد آدم بابكر ، و أنا مدين لهما بالكثير في مهارات العمل العام خاصة للعزيز عماد و هو نقابي عتيد من قادة نقابة الخطوط الجوية السودانية (سودانير) سابقاً وقد تعلمت منه أبجديات العمل الإداري و النقابي و الإعلامي فهو ذو موهبة و دراية كبيرة في هذا المجال ، خلال سنوات عديدة تلت ذلك اللقاء نجحنا مع آخرين و خاصة أخي الأكبر أيمن إبراهيم سلمان في تكوين عدد من المنظمات الطوعية في هولندا و طباعة و تصميم نشرات دورية خاصة بها ، مثل لجنة طالبي اللجوء السياسي السودانيين بهولندا و لسان حالها مجلة “حتى نعود” ، و منظمة “سوا سوا” و نشرتها الدورية “السودان اليوم” ، و الجمعية الطبية السودانية في هولندا و التي تحولت إلى الجمعية العلمية لاحقاً و صحيفتها “الحكمة”. بعد عدة سنوات أتى قرار من وزارة الهجرة بأن يخرج الكثير من طالبي اللجوء السياسي إلى أماكن سكن مؤقت مع أسرهم و أصدقائهم بسبب الزيادة الكبيرة في المهاجرين إلى ذلك البلد الصغير حيث وصل عددهم في نهاية العام 1998 إلى 45 ألف مهاجراً سنوياً في بلد تبلغ مساحته 41 ألف كيلومترا مربعاً و عدد سكانه حينها 16 مليون مواطن ، و أذكر إلى اليوم ملاحظة الصديق عماد آدم الحصيفة و التي قال فيها أن هذا القرار سيضرب العمل الجماعي في مقتل لأن وجود الناس في مكان سكن واحد مثل معسكرات طالبي اللجوء و في ظروف متشابهة يدفع بهم إلى عمل تعاضدي بسهولة عكس الشتات الذي يسببه السكن الفردي مع الأسر و الأصدقاء ، و لعل ذلك ينبع من تجربة عميقة للصديق عماد الذي إعتقلته سلطات الجبهة الإسلامية في لوثتها الأولى لا لذنب إلا أنه عضو في نقابة مهنية و أودع سجن كوبر بلا جرم يستدعي ذلك.
في يونيو من العام 2023 تقابلت مع الدكتور بكري الجاك المدني حيث كان في ابتعاث علمي في معهد الدوحة للدراسات الإجتماعية ، و بسبب مقالاته العميقة في تحليل و تفكيك الوضع السياسي في السودان وددت أن أتحدث معه حول عدد من المواضيع ذات الإهتمام المشترك ، و في سماحة علمية رائعة منحني ساعتين من وقته الثمين تحدثنا فيها في مواضيع شتى و نحن نذرع شاطئ مدينة لوسيل الحديثة جيئةً و ذهاباً ، و أحد الموضوعات التي تطرقنا إليها كان الفعالية الكبيرة للروابط المهنية في الدوحة و سردت عليه أيضا تجربتي مع الأصدقاء في هولندا ، و بحذق العالم الإجتماعي كما هو الحال مع العلَامة حيدر إبراهيم علي ، شخّص لي الدكتور بكري الجاك الظاهرة الاجتماعية المرتبطة بالفعالية الجماعية للطبقة الوسطى حينما يتواجد ممثلوها في ظروف اجتماعية مواتية ، حيث يؤدي ذلك إلى تفاعل إيجابي خلّاق يدفع بممثليها لإخراج أجمل ما فيهم و أكثره نفعاً للناس ، و لم يقف عند ذلك فحسب بل دلّني على عالم إجتماع أمريكي متميز في هذا الضرب من المعرفة و إسمه روبرت د. بوتنام و
كتابه الأشهر لعب رياضة البولنغ وحيداً انهيار و إعادة بناء المجتمعات الأمريكية .
Balling alone the collapse and the rebuilding of the American society
نظرية روبرت د. بوتنام في الفعالية الاجتماعية (رأس المال الاجتماعي)
ولد عالم الاجتماع روبرت بوتنام في مدينة بورت كلينتون و هي مدينة صغيرة في ولاية أوهايو لأب يعمل في البناء و أم تعمل معلّمة و كان والداه ملتزمان دينياً و فاعلين بصورة كبيرة في النشاطات الاجتماعية في مدينتهم مما أكسب روبرت الطفل شغف الفعالية الاجتماعية منذ نعومة أظفاره ، بعد ذلك تخرج من مدرسة سوارتمور كولديج في ضواحي مدينة فيلادلفيا ليحظى بمنحة دراسية لاستكمال دراسته في جامعة أوكسفورد في بريطانيا و يكمل الماجستير في جامعة ييل المرموقة في أمريكا و لينتهي به المطاف إلى جامعة هارفارد العريقة في مدينة بوسطن ، خلال تلك الفترة الثرّة نشر بوتنام عدة كتب و دراسات علمية و اجتماعية لكن كتابه بولينغ آلوون كان الأكثر تأثيراً في الرأي العام ، حيث ناقش فيه التأثير السلبي للمجتمعات الحديثة على المواطنين و الأنانية المفرطة التي يتربى بها الفرد فيها ، و التي تنأى به عن المساهمة بصورة فاعلة في تغيير مجتمعه إلى الأفضل ، و أوضح في سِفره ذاك أهمية التفاعل الخلّاق بين أفراد المجتمع ككل كي تحدث القفزات الإجتماعية الكبرى و التي أدت إلى تطور كبير في الحياة الاجتماعية و المفاهيم المتقدمة للطبقة الوسطى الأمريكية و للمجتمع ، و بلا شك إمتد تأثير ذلك للعالم أجمع.
بالعودة إلى واقعنا اليوم و خاصة في التفاعل البنّاء للروابط المهنية و الجغرافية و الروابط النوعية للسودانيين في قطر يمكن أن نقتفي أثر مفاهيم بروفيسور بوتنام فيما أسماه برأس المال الإجتماعي الناتج عن التطور الإيجابي بسبب تواجد عدد كبير من المهنيين السودانيين في أوضاع اجتماعية مستقرة ما أسهم في الإنصهار في بوتقة العمل الإجتماعي المشترك ما أدى لإنجاح العديد من المشاريع التي قامت بها الروابط المهنية و الجغرافية و الجالية السودانية ككل عبر التنسيق المشترك مثل تنظيم حملة إيدينا للبلد في كارثة السيول و الأمطار ، كما أسهم المهنيون السودانيون الجالية السودانية في قطر ككل في مساندة حملة تبرعات دولة قطر للسودان فاق مردودها ال 100 مليون ريال قطري ، و بالطبع فإن القدح المعلّى في هذا المبلغ كان لسمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني و للعديد من رجال الأعمال و المواطنين القطريين الذين ساهموا فيها بسخاء جزاهم الله كل الخير على هذا العطاء ، لكن كانت مساهمة السودانيين أيضا كبيرة جداً ، كما أثمر نشاط الروابط المهنية في حملة المساهمة الكبيرة لتقليل الآثار السلبية للكورونا و التي لعبت فيها رابطة الأطباء دوراً مشهوداً بتقديم المعرفة العلمية مع رصيفاتها من المنظمات الطبية للسودانيين حول العالم و كان دور الروابط المهنية في قطر كبيراً جداً آنذاك خاصة بوجود ممثلين لها داخل السودان حيث مثل الباشمهندس ياسر صبير الذي لعب دور كبيراً لتنسيق تلك المساعدات و إيصالها للمحتاجين عبر الجهات المعنية خلال تلك الفترة.
و عطفاً على لقاء الجمعة الذي ورد في بداية هذا المقال ، فإن دوره تعدى رابطة المهندسيين السودانيين في قطر ، و ساهمت مجهودات الأصدقاء في ذلك اللقاء في تنظيم أول ورشة للمجالس الاستشارية للحكومة الإنتقالية الأولى حيث نظمت رابطة المهندسين السودانيين في قطر و رابطة خريجي كلية الهندسة جامعة الخرطوم ذلك اللقاء قبل حتى تكوين حكومة حمدوك الأولى ، بمساهمة فاعلة من المهندسين مثل عمّار حامد العوض و الباشمنهدس نادر عبد الله و آخرين ، و حضر تلك الورشة 6 خبراء أصبحوا لاحقاً وزراء في حكومة حمدوك التكنوقراطية الأولى منهم بروف محمد الأمين التوم وزير التربية و التعليم و بروف ياسر عباس خبير المياه الذي تقلّد لعدة سنوات وظيفة وزير الموارد المائية باقتدار ولاحقا الصديق الباشمهندس هاشم إبن عوف الذي تقلد وظيفة وزير البنية التحتية و النقل كتنوقراط مستقل ، و نظراً لخصوصية الدوحة كمدينة جمعت مهنيين سودانيين متميزين في مختلف المجالات فلقد خلق التفاعل الإيجابي بين مختلف المهنيين تأثيراً فاق فضاءات رابطة واحدة ليصل إلى مختلف الروابط المهنية مثل الأطباء و القانونيين و الاعلاميين و الأساتذة و أساتذة الجامعات و تقنيي المختبرات و ، تكنولوجيا المعلومات ..إلخ و الذين تربطهم هيئة مشتركة لتنسيق المشاريع الكبيرة ، و ما يميز نشاط المهنيين السودانيين في قطر هو حرفيته العالية و الابتعاد قدر الإمكان عن الشأن السياسي ، لذا فتجد مساهماتهم الكبيرة خلال السنوات الستة الماضية مثلاً قد حدثت خلال مختلف الحكومات سواء حكومة الرئيس البشير و حكومة الثورة الانتقالية أو حتى إبان حكومة البرهان الأولى بل و حتى أثناء الحرب الحالية مستهدفة خدمة البلاد و المواطنين بصورة أساسية ، مثل محاربة حمى الكنكشة من قبل رابطة الأطباء التي حدثت إبان حكم البشير مروراً بمحاربة وباء الكوليرا و الكورونا والسيول و الأمطار في عهد حكومة د.حمدوك ووصولاً إلى بناء مستشفى في عطبرة من قبل رابطة المهندسين و إعادة تأهيل استراحة الإطباء في بورتسودان من قبل رابطة الأطباء خلال حكم البرهان خلال فترة الحرب الحالية ، لذ نخلص أن رأس المال الاجتماعي السوداني في المهاجر يعتبر عالياً و هي قيمة فريدة ينبغي علينا الاعتداد بها و تنميتها لأن ذلك سينظم السودانيين في المهاجر حول العمل المهني الإحترافي الأمر الذي سينتج لنا قادة مميزون في العمل العام في المستقبل تدربوا على العطاء و اكتسبوا ثقة الناس بأدائهم المتميز و نكرانهم للذات.
و الآن و بعد أن انسد أفق العقل الجماعي في سودان حرب ، أعتقد أنه من المنطقي استنفار عقول المهنيين السودانيين حول العالم لخلق تصور جماعي جديد لسودان ما بعد الحرب يعضد السلام و يكون كخارطة طريق لأي حكومة قادمة يضع استراتيجية تنموية شاملة تستهدف ترسيخ ثقافة السلام و التنمية المتوازنة ، تحدد الأولويات الملحّة في التعافي الاقتصادي و إعادة تخطيط المدن و البنية التحتية بما يخدم البلاد ، لا شك أن ذلك سيرسل رسالة قوية للسودانيين في كل المنافي الداخلية و الخارجية بأن هناك عقولاً تفكر لمستقبل أفضل ، فتعبيرات لا للحرب فقط دون أن تتبعها تصورات عملية مدروسة و علمية دقيقة ستكون شعارات بلا جذور و لن تثمر في تربة بلدنا الخصبة ، فهلا شرعنا في التنسيق لخلق هذه الرؤية الشاملة.
د. أمجد إبراهيم سلمان ، الإثنين 23 ديسمبر 2024
المصدر: صحيفة التغيير