I. مقدمة: تأطير الإشكالية
تفكيك الإشكالية
يبحث هذا التقرير في إشكالية محورية وشائكة في المشهد السياسي والفكري السوداني المعاصر: كيف يمكن فهم المسار الفكري والسياسي للبروفيسور عبد الله علي إبراهيم، الذي انطلق من خلفية يسارية ليصبح لاحقاً من أبرز دعاة الحوار مع نظام “الإنقاذ” الإسلامي، ومؤخراً من أشد المدافعين عن القوات المسلحة في حربها ضد قوات الدعم السريع. لا يهدف هذا التحليل إلى إصدار حكم أخلاقي، بل يسعى إلى تفكيك هذا المسار الذي أدى إلى اتهامه بالتحول الأيديولوجي والخداع السياسي، من خلال فحص مواقفه وكتاباته وردود الفعل عليها عبر محطات تاريخية حاسمة.
التعريف بالموضوع
البروفيسور عبد الله علي إبراهيم شخصية فكرية غزيرة الإنتاج ومثيرة للجدل في آن واحد. هو مؤرخ، وناقد أدبي، وكاتب مسرحي، ومعلق سياسي، تمتد مسيرته المهنية لأكثر من نصف قرن من تاريخ السودان الحديث. وبصفته أستاذ التاريخ الأفريقي والإسلامي بجامعة ميزوري الأمريكية ، فقد جمع بين البحث الأكاديمي الرصين والاشتباك المباشر مع القضايا السياسية اليومية، مما جعله صوتاً مؤثراً وموضع خلاف دائم.
الأطروحة المركزية
يطرح هذا التقرير أن تصنيف إبراهيم كمتعاون مع الإسلاميين، أو على النقيض من ذلك، كمحارب متفانٍ ضدهم، هو تبسيط مخلّ لمشروع فكري معقد ومتناقض في كثير من الأحيان. يمكن فهم مساره بشكل أفضل على أنه ابتعاد تدريجي عن الولاءات الأيديولوجية الصرفة (سواء اليسارية أو الإسلامية) نحو تبني شكل من أشكال “القومية المتمركزة حول الدولة”. هذا المشروع يعطي الأولوية للحفاظ على مؤسسة الدولة وهيبتها فوق السياسات الحزبية، وهو متجذر في نقد عميق للنخبة السياسية السودانية بأكملها، التي يحمّلها المسؤولية الجماعية عما يسميه “الإرهاق الخلاق” الذي أصاب الأمة.
II. نقطة الانطلاق: التأسيس الماركسي (عقدا الستينيات والسبعينيات)
التكوين الأيديولوجي المبكر
لفهم التحولات اللاحقة في فكر عبد الله علي إبراهيم، لا بد من إرساء هويته السياسية التأسيسية. تشير الأدلة القاطعة إلى انغماسه العميق في الحزب الشيوعي السوداني والحركات الثقافية اليسارية خلال فترة شبابه. لقد كان عضواً بارزاً في المشهد الثقافي اليساري، حيث شغل منصب الأمين العام لجماعة “أبادماك” للكتاب والفنانين التقدميين في الستينيات. في تلك الفترة، كانت كتاباته المبكرة، وأبرزها “الصراع بين المهدي والعلماء” عام 1968، تُقرأ في سياق الصراع الذي تخوضه حركة التغيير اليسارية ضد القوى المحافظة التي تستخدم الإسلام كأداة سياسية. لم يكن هذا مجرد تحليل تاريخي، بل كان اشتباكاً مع الحاضر عبر بوابة التاريخ، وهو منهج سيلازمه طويلاً. تؤكد كتاباته وشهاداته الشخصية تاريخه الطويل والحميم مع الحزب الشيوعي، حيث يشير إلى قادة بارزين مثل عبد الخالق محجوب بلقب “أستاذنا”.
القطيعة مع الحزب الشيوعي
شكلت القطيعة مع الحزب الشيوعي نقطة تحول حاسمة في مسيرته، وهي حدث ينبئ بنزعته اللاحقة لكسر القوالب الفكرية والسياسية. لم يكن انفصاله مجرد خلاف سياسي، بل كان له جذور فكرية عميقة. في شهادة مفصلة، يروي إبراهيم أنه استقال من عضويته وتفرغه في الحزب في أبريل 1978، بعد أن قررت سكرتارية الحزب مصادرة كتاب شارك في تحريره بهدف إصلاح مناهج تدريس الماركسية داخل الحزب. استشهد في خطاب استقالته ببيت للمتنبي يعبر عن عمق الخذلان: “إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم”. لقد مثّل هذا الفعل من الرقابة الفكرية الذي مورس عليه من قبل حزبه صدمة تكوينية. وقد خلص من هذه التجربة إلى استنتاج مفاده أن “مقامي ليس بين حارقي مقامي”، وأن الحركة السياسية “لا صبر لها على المثقف في بنيتها”.
إن هذا الانفصال لم يكن تحولاً أيديولوجياً نحو الإسلام السياسي، بل كان تمرداً على الدوغمائية الأيديولوجية في حد ذاتها. هذه التجربة المريرة أرست الأساس النفسي والفكري لاستعداده اللاحق لكسر إجماع المعارضة والدخول في حوار مع نظام الإنقاذ. فبعد أن تعرض للقمع الفكري من قبل رفاقه، استنتج أن الهياكل الحزبية الصارمة معادية بطبيعتها للفكر المستقل. وبالتالي، فإن تشككه اللاحق في جميع العقائد السياسية، بما في ذلك عقيدة المعارضة الرافضة لأي حوار مع نظام الإنقاذ، لا يمثل خيانة مفاجئة، بل هو تطبيق متسق لمبدأ تشكل في بداية مسيرته: أولوية النقد المستقل على الولاء الحزبي الأعمى.
III. التحول الكبير: “الإرهاق الخلاق” والحوار مع نظام الإنقاذ (عقدا التسعينيات والألفين)
أطروحة “الإرهاق الخلاق”
في هذه الفترة، طرح عبد الله علي إبراهيم أطروحته المركزية التي أثارت جدلاً واسعاً وأسست لاتهامه بالتعاون مع الإسلاميين. فبعد عام واحد فقط من انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989، وفي وقت كانت فيه المعارضة تتعرض لقمع وحشي، نشر مقالاً بعنوان “الحكومة تطفئ شمعة والمعارضة تلعن الظلام”. دعا في هذا المقال إلى استراتيجية للمصالحة الوطنية، مستنداً إلى حجة مفادها أن الطبقة السياسية السودانية بأكملها، حكومة ومعارضة، قد وصلت إلى حالة من الإنهاك العميق، وأن مشاريعها الكبرى تحولت إلى “جثث” تعيق الطريق نحو مستقبل أفضل للوطن.
لقد أعاد إبراهيم تأطير الأزمة السودانية برمتها؛ فهي في نظره لم تعد مجرد لعبة “معارضة ضد حكومة”، بل “أزمة وطنية عامة لا مكان فيها لفئة ناجية”. هذه الأطروحة، التي تم تطويرها لاحقاً في كتابه “الإرهاق الخلاق: إستراتيجية للصلح القومي” الصادر عام 2001 ، شكلت الأساس النظري لمواقفه اللاحقة.
التعامل مع النظام
لم تكن نظريته مجرد تنظير أكاديمي، بل سعى لتطبيقها عملياً. شارك في “مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام” الذي دعمت إليه الحكومة في شتاء عام 1989. برر هذه المشاركة بقوله: “كنت أعد حقيبة الاعتقال كسائر زملائي، فسمعت اسمي في المذياع عضواً بذلك المؤتمر، ونداء الوطن لا يرد”. هذا الفعل، في ذروة القمع، اعتبره رفاقه اليساريون السابقون خيانة لا تغتفر، وأصبح الدليل الرئيسي في نظرهم على “تعاونه” مع النظام.
النقد والاتهامات
أثارت هذه الفترة ردود فعل عنيفة. فقد اتهمه نقاد مثل منصور الحاج بأنه يقدم غطاءً فكرياً لجرائم النظام، متسائلاً بمرارة عن أي “شفرة ثقافية” تلك التي يمكن أن تبرر “التطهير العرقي، والاسترقاق، واضطهاد النساء، والبتر والقطع والصلب”. أما المعارضة فقد رفضت دعوته للحوار واعتبرتها “تخاريف كاتب ساكت (أي لا هنا ولا هناك)”، بينما كانت تستعد لمنازلة كبرى مع نظام الإنقاذ.
إن هذا التحول في موقف إبراهيم لا يمكن فهمه على أنه تبنٍ للأيديولوجية الإسلامية، بل هو تحول في ولاءاته السياسية. لقد انتقل ولاؤه من طبقة أو حزب معين (البروليتاريا، الحزب الشيوعي) إلى الكيان المجرد للدولة السودانية نفسها. فبعد تشخيصه للمشهد السياسي بأنه حالة من الفشل الشامل والإرهاق المتبادل بين جميع الأطراف، أصبح الحفاظ على بقاء مؤسسة الدولة في نظره أكثر أهمية من انتصار أي فصيل سياسي. من هذا المنطلق، يصبح الحوار، مهما كان بغيضاً، أداة براغماتية لمنع الانهيار الكامل للدولة. وبالتالي، فإن تعامله مع نظام الإنقاذ، من وجهة نظره، كان عملاً من أعمال الواقعية السياسية المؤلمة التي تهدف إلى الحفاظ على الدولة، وليس تأييداً لمشروعها. أما اتهامات التعاون، فقد نشأت من عجز معارضة مستقطبة عن فهم فاعل سياسي يعمل خارج إطارها الثنائي القائم على المقاومة الشاملة أو الخيانة الكاملة.
IV. حرب على جبهتين: عقيدة “معارضة المعارضة”
نقد “الذهن المعارض”
لم يوجه عبد الله علي إبراهيم نقده للسلطة الحاكمة فحسب، بل شن حملة نقدية طويلة الأمد وممنهجة ضد حلفائه السابقين في المعارضة، وهو الموقف الذي أكسبه لقب “معارضة المعارضة”. يصرح إبراهيم بأن هذا المشروع النقدي بدأ خلال فترة حكم نميري واستمر طوال فترة الإنقاذ. كان ينتقد المعارضة بسبب ما أسماه “التأجيج السياسي المحض”، الذي يمجد الماضي بطريقة عاطفية دون تقديم بديل عملي للمستقبل.
تبنى إبراهيم في نقده هذا رؤية أستاذه عبد الخالق محجوب، الذي وصف استراتيجية المعارضة بأنها “معارضة إثارة”، أي أنها مقاومة تعتمد على الاستفزاز وردود الفعل بدلاً من أن تكون مقاومة استراتيجية عميقة قادرة على بناء دولة جديدة. يجادل إبراهيم بأن الطاقة الوحيدة التي تحرك المعارضة هي “طاقة الاحتجاج”، مستشهداً بأليكس دي وال، ويحذر من أن “ويل لبلد ليس في جعبته من طاقة سوى الغضب”.
نقد قوى ما بعد ثورة 2019
اشتدت حدة نقده بعد ثورة ديسمبر 2019، حيث وجه سهامه إلى قوى الحرية والتغيير (قحت) ومن ثم إلى خليفتها “تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية” (تقدم). اتهم هذه القوى بالفشل في التعلم من تجربتها في الحكم، وبدلاً من ذلك لجأت إلى “اصطناع شيطان هو الكيزان لترميه بالجمرات” كوسيلة للتنصل من مسؤوليتها عن الإخفاقات. كما انتقد ضعف رؤيتها الاستراتيجية، وهو ما يعتقد أنه أسهم بشكل مباشر في اندلاع حرب 2023.
لا يرى إبراهيم أن نظام الإنقاذ ومعارضته متكافئان أخلاقياً، لكنه يراهما متماثلين في الخلل الوظيفي. فكلاهما، في نظره، نتاج لثقافة سياسية فاشلة، قبلية، ونخبوية، وعاجزة عن بناء دولة حديثة وشاملة. إن نظام الإنقاذ هو دكتاتورية وحشية دمرت الدولة، لكن المعارضة التقليدية، في المقابل، مفلسة استراتيجياً وجامدة فكرياً ومهووسة بالاحتجاج بدلاً من الحكم. كلاهما مظهر لنفس المرض العميق الذي أسماه “صدأ الفكر السياسي السوداني”. من هذا المنظور، يصبح من واجب المثقف الحقيقي نقد طرفي المعادلة، لأن التركيز على طرف واحد يعني تجاهل المرض الجهازي الأعمق. وهذا يفسر لماذا تبدو انتقاداته للمعارضة في كثير من الأحيان أكثر قسوة واستدامة؛ لأنه يحاسبها وفقاً لمعايير يعتقد أنها فشلت باستمرار في تحقيقها.
V. خوض حرب مختلفة: الاشتباك الفكري مع الإسلاميين
الرد على فرضية “الحرب الإعلامية”
يتناول هذا القسم الجزء الثاني من سؤال المستخدم مباشرة. تشير الأدلة إلى أن اشتباك إبراهيم مع الإسلاميين لم يكن “حرباً” بالمعنى النضالي للكلمة، بل كان تحليلاً نقدياً متواصلاً، وغالباً ما اتخذ طابعاً تاريخياً ورمزياً.
-
النقد التاريخي: يُعد كتابه الصادر عام 1968، “الصراع بين المهدي والعلماء”، مثالاً ساطعاً على منهجه. فعلى الرغم من أن الكتاب يتناول الدولة المهدية في القرن التاسع عشر، إلا أن إبراهيم يصرح بوضوح أنه يجب أن يُقرأ كـ “حاضر يتوسل بالتاريخ”، وأنه كتبه في سياق نقد المحافظين المعاصرين الذين استخدموا الإسلام لقمع الحركات اليسارية. يحلل إبراهيم في الكتاب كيف أعلنت المهدية نفسها “الإسلام الصحيح الوحيد”، مما جعل معارضتها بمثابة الهرطقة، وهو ما يمثل توازياً مباشراً مع تكتيكات الإسلاميين المحدثين.
-
نقد الشخصيات والسياسات الإسلامية: كتب إبراهيم بإسهاب عن شخصيات إسلامية رئيسية مثل حسن الترابي. فبينما يعترف بذكاء الترابي ويصفه بـ”المجدد”، فإنه ينتقد مشروعه السياسي والنتائج الكارثية لنظام الإنقاذ. وقد وصف الصراع بين الإسلاميين واليساريين بأنه “هذيان مانوي” (نسبة إلى المانوية التي تقسم العالم إلى خير وشر مطلقين).
-
النقد المنهجي للديكتاتورية: انتقد إبراهيم باستمرار الأثر المدمر للديكتاتوريات العسكرية الثلاث في تاريخ السودان (1958، 1969، 1989)، ووضع نظام الإنقاذ المدعوم من الإسلاميين ضمن هذا النمط من “التجريف” الممنهج للحياة المدنية والسياسية. وفي مقال له عام 2019، تساءل بشكل مباشر: “من أين جاء هؤلاء الكيزان؟”، رابطاً صعودهم بإخفاقات الأنظمة السياسية التي سبقتهم.
لم يقد عبد الله علي إبراهيم “حرباً إعلامية” لأنه يعمل كمؤرخ سياسي وناقد ثقافي، وليس كناشط سياسي. سلاحه هو مشرط التحليل، وليس مطرقة الدعاية. إن “الحرب الإعلامية” تتطلب حملة مستدامة ومبسطة تهدف إلى تعبئة الرأي العام ضد عدو محدد. أما عمل إبراهيم حول الإسلام السياسي فهو أكاديمي، تاريخي، ودقيق في تفاصيله، وغالباً ما يُنشر في كتب ومقالات تحليلية. اهتمامه ينصب على تفكيك منطق وتاريخ السلطة الإسلامية أكثر من مجرد التنديد بها. لذلك، فبينما كان ناقداً ثابتاً للمشروع الإسلامي، فإن أساليبه وأسلوبه الفكري لا يتناسبان مع تعريف “المحارب الإعلامي”. إن إطار السؤال لا يتوافق مع طريقة عمل الموضوع.
VI. ساحة المعركة المعاصرة: مواقف ما بعد الثورة وحرب 2023
الانحياز لمؤسسة الدولة (القوات المسلحة)
في الصراع الحالي الذي اندلع في أبريل 2023، تجلت قوميته المتمركزة حول الدولة بشكل واضح وصريح. فبعد وقت قصير من اندلاع الحرب، كتب مقالاً بعنوان: “اليوم كلنا القوات المسلحة السودانية”. يجادل إبراهيم بأنه إذا انتصرت القوات المسلحة، “استنقذنا ما بقي من الدولة لنبني عليها”. أما إذا انتصرت قوات الدعم السريع، فسيصبح السودان “هايتي أخرى”، أي دولة فاشلة تديرها العصابات. هذا الموقف، في نظر منتقديه، هو تحالف فعلي مع القوات المسلحة، وبالتالي، مع عناصر “الدولة العميقة” الإسلامية داخلها.
“لوثة الكيزان”
طرح إبراهيم مؤخراً مفهومه الأكثر إثارة للجدل، “لوثة الكيزان”، لانتقاد قوى الحرية والتغيير (قحت) و”تقدم”. يرى أن القوى الثورية مصابة بـ”فوبيا الكيزان”، وهو هوس بإلقاء اللوم على الإسلاميين في كل شيء، مما يعميها عن التهديدات الأخرى وعن إخفاقاتها الذاتية. يؤكد أنه على الرغم من أن الإسلاميين ليسوا أبرياء، إلا أنهم ليسوا السبب الوحيد للحرب؛ بل “وجدوا شقاً فوسعوه”. جذور الحرب، في رأيه، تكمن في إخفاقات الحكومة الانتقالية والتناقضات الكامنة في مشروع قوى الحرية والتغيير نفسه.
“المواطن” مقابل “المدني” و”الحرابة”
طور إبراهيم إطاراً تحليلياً فريداً ومثيراً للجدل لتحليل ضحايا الحرب ومرتكبيها. يفرق بين “المدني” (الذي هو ضحية سلبية للحرب تحميه القوانين الدولية) و”المواطن” (الذي لا يتضرر من الحرب لأن “هذه حربه” التي قرر من خلالها أنه لن تحكمه ميليشيا). يرى النقاد في هذا التمييز تبريراً فكرياً بارداً لاستمرار الحرب. علاوة على ذلك، يعرّف إبراهيم أفعال قوات الدعم السريع ليس بأنها “حرب”، بل “حرابة”، وهو مصطلح من الفقه الإسلامي يشير إلى قطع الطريق والإرهاب والحرب غير المقدسة. هذا التعريف يهدف إلى نزع الشرعية تماماً عن قوات الدعم السريع، ووضعها خارج أعراف الحرب الحديثة والشريعة الإسلامية على حد سواء.
إن موقف إبراهيم من حرب 2023 ليس تحولاً مفاجئاً، بل هو التتويج المنطقي لمشروعه الفكري الممتد لعقود. فتركيزه على الدولة (دعم القوات المسلحة)، ونقده للمعارضة (مفهوم “لوثة الكيزان”)، واستخدامه لمفاهيم ثقافية وتاريخية عميقة (“حرابة”)، كلها تتسق مع أنماط تفكيره الراسخة. لقد وضع ولائه للدولة فوق أي اعتبار حزبي؛ فالقوات المسلحة، بكل عيوبها، هي جيش الدولة، بينما قوات الدعم السريع هي تهديد وجودي للدولة. ونقده للمعارضة ينبع من رؤيته لإخفاقاتها الاستراتيجية والفكرية، حيث يعتبر تركيزها الأحادي على “الكيزان” أحدث وأخطر هذه الإخفاقات. وأخيراً، فإن منهجه التحليلي يعتمد دائماً على الحاضر من خلال عدسة المفاهيم التاريخية والثقافية العميقة، لذا فقد لجأ إلى الفقه الإسلامي ليجد أقوى مصطلح ممكن، “حرابة”، لتعريف ونزع الشرعية عن خصمه. موقفه الحالي هو الاختبار الأقصى لرؤيته للعالم.
VII. تركيب وتقييم نهائي: إعادة تقييم المسار الفكري
لتلخيص المسار المعقد لعبد الله علي إبراهيم، يقدم الجدول التالي تحليلاً زمنياً لمواقفه السياسية وكيفية استقبالها، مما يوضح الأنماط المستمرة في فكره وردود الفعل التي أثارها.
لا تدعم الأدلة المتوفرة الادعاء بأن إبراهيم كان عميلاً سرياً أو متعاطفاً أيديولوجياً مع الإسلاميين. إن تعامله معهم نبع من حسابات براغماتية متمركزة حول الدولة، وهي حسابات وجدتها المعارضة خيانة لا يمكن فهمها. لم يتبنَّ إبراهيم أيديولوجيتهم قط؛ بل دعا إلى إشراكهم في تسوية وطنية لمنع انهيار الدولة. إن هذا الاتهام هو نتاج حقل سياسي مستقطب لا يمتلك تصنيفاً لفاعل يرفض ثنائياته الأساسية.
إعادة النظر في فرضية “الحرب الإعلامية”
هذا الادعاء أيضاً لا يستند إلى دليل. لقد كان إبراهيم ناقداً ثابتاً للمشروع الإسلامي، لكن أساليبه كانت أكاديمية وتحليلية وتاريخية. لم يكن أبداً ناشطاً يقود حملة عامة. كانت “حربه” تُخاض على صفحات الكتب والمقالات العلمية، بهدف تفكيك منطق خصومه، وليس تعبئة الجماهير ضدهم.
التقييم النهائي: القومي المتمركز حول الدولة ومحطم الأيقونات
الوصف الأكثر دقة لعبد الله علي إبراهيم هو أنه “قومي متمركز حول الدولة ومحطم للأيقونات”.
-
محطم للأيقونات (Iconoclastic): لقد كسر باستمرار العقائد الأرثوذكسية لكل معسكر ارتبط به، من الحزب الشيوعي إلى المعارضة العلمانية.
-
متمركز حول الدولة (StateCentric): ولاؤه النهائي هو لمؤسسة الدولة السودانية، التي يراها هشة ومهددة باستمرار من قبل السياسات المدمرة والأنانية لنخبة البلاد.
-
قومي (Nationalist): يهدف مشروعه إلى بناء دولة قومية سودانية فاعلة، حتى لو تطلب ذلك تنازلات مؤلمة مع أطراف بغيضة.
إن مأساته، ومصدر الجدل الدائر حوله، تكمن في أن مشروعه الفكري كان باستمرار غير متزامن مع الأهواء السياسية لعصره. لقد عرض الحوار عندما طالب الآخرون بالثورة، وهو اليوم يطالب بالدفاع عن الدولة بينما يرى الآخرون أن هذه الدولة فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه.
المصدر: صحيفة الراكوبة