لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الكتاب المقدس والقرآن؟
لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الكتاب المقدس والقرآن؟
صمت تاريخ مصر القديم وآثاره حتى الآن عن ذكر حادثة “خروج العبرانيين” من أرض مصر التي ورد ذكرها في سفر الخروج في الكتاب المقدس وبعض آيات القرآن، كما صمتت النصوص الدينية المقدسة عن ذكر اسم هذا “الفرعون” الذي حكم مصر وعاصر النبي موسى، الأمر الذي أثار شغف الكثير من علماء تاريخ مصر القديم ودفعهم إلى تسخير كل ما لديهم من معلومات تاريخية لوضع فرضيات لعلها تفضي إلى حل هذا “اللغز” وتحديد شخصية هذا الملك “المجهول” إلى أن تبدو في الأفق أدلة أثرية جديدة تحسم الجدل بينهم.
في عام 1976 استقبلت قاعدة “بورجيه (دويني)” الجوية في العاصمة الفرنسية باريس مومياء الملك رعمسيس (رمسيس) الثاني، التي وصلت على متن طائرة عسكرية فرنسية من طراز “بريجيه” ذات الطابقين، وأقيمت لها مراسم استقبال رسمية مهيبة بحضور مبعوثة الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، وقائد القوات المسلحة الفرنسية، وسفير مصر في باريس، وبمشاركة الحرس الجمهوري الفرنسي، وعزف الموسيقى العسكرية، قبل أن تستقر المومياء في “متحف الإنسان” في قلب العاصمة، تمهيدا لإجراء عملية ترميم لها على يد نخبة من العلماء الفرنسيين بسبب “فطريات أصابتها”.
كان الرئيس الفرنسي قد نجح في إقناع الرئيس المصري وقتها، محمد أنور السادات، بإرسال مومياء الملك إلى باريس لإجراء فحوص علمية، من بينها الكشف عن مزيد من أسرار حياة الملك ومعرفة أسباب وفاته، لاسيما وأنه توفي في سن كبير وكان يعاني من أمراض الشيخوخة.
وعلى مدى سبعة أشهر كاملة، من 26 سبتمبر/أيلول 1976 وحتى 10 مايو/أيار 1977، استقبلت باريس “ضيفها الجليل”، كما وصفته العالمة الفرنسية البارزة مدام كريستيان دي روش نوبلكور في دراستها “رعمسيس الثاني. القصة الحقيقية” مضيفة أنه “خُصصت للفرعون قاعة كبرى معقمة، ومن أجل التوصل إلى كشف الفطريات والبكتريا المهاجمة للمومياء الملكية، ووضع خطة لإنقاذها (المومياء) .. عمل رئيس متحف الإنسان على حشد نحو 120 مساعدا له، تطوعوا جميعا لأداء هذه المهمة، من بينهم 63 باحثا علميا في مختلف التخصصات”.
“مومياء رعمسيس الثاني في باريس لماذا؟”
كان وراء إرسال مومياء الملك رعمسيس الثاني إلى باريس ثلاثة أهداف رئيسية، أولها معالجة المومياء من فطريات ظهرت على الأرجل والكعبين وفي الكتف الأيمن وفي تجويف البطن، وثانيها محاولة معرفة المزيد عن أسرار طرق التحنيط المصرية القديمة، ومعرفة أسباب الوضع الذي آلت إليه المومياء وتحديد تركيب ومحتويات مواد التحنيط، وثالثها محاولة التوصل إلى معرفة السبب الحقيقي لوفاة الملك؛ هل كانت وفاة طبيعية نتيجة لتدهور صحة الملك بسبب كبر سنه، أم أنه توفي بسبب “اختناق” على اعتبار فرضية تقول إن “فرعون الخروج” مات غرقا.
تخطى قصص مقترحة وواصل القراءة
قصص مقترحة
قصص مقترحة نهاية
قبل وصول المومياء إلى العاصمة باريس أعدت الحكومة الفرنسية معملا مجهزا بتقنيات علمية حديثة بمتحف الإنسان، وذلك بمساعدة معمل الأنثروبولوجيا بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس، وزُوّد المكان، الذي أطلق عليه اسم “معمل رعمسيس الثاني”، بجهاز للأشعة السينية وأجهزة تكييف للهواء وجهاز لقياس الرطوبة، وكانت تجُرى يوميا عمليات تسجيل للعوامل الجوية.
حدد الفريق العلمي برئاسة البروفيسور ليونيل بالو، مدير متحف الإنسان، برنامجا تفصيليا لأخذ عينات من المومياء، وكانت الدكتورة كوليت روبيه مشرفة على عملية التنسيق العلمي بين الباحثين والمعامل والمراكز والمعاهد العلمية المختلفة التي اشتركت في عملية فحص المومياء.
استدعت المهمة مشاركة ما يزيد على مئة باحث علمي وعشرين مؤسسة ومركزا ومعهدا علميا أبرزهم: المركز الوطني للبحوث العلمية (لأخذ العينات وفحصها)، وإدارة الطب الشرعي (لفحص البقايا العظمية والجلدية)، ومعهد الحفريات البشرية (لفحص بقايا التربة العالقة)، ومعهد باستير للتحاليل الميكروبيولوجية، ومؤسسة الطاقة الذرية بكالي وغرونوبل (لمعالجة المومياء بأشعة غاما)، ومتحف الإنسان، وقسم الآثار المصرية في متحف اللوفر .. وغيرها.
شمل برنامج عمل الفريق العلمي أخذ عينات من خارج وداخل المومياء، وفحص العمود الفقري والشعر والتجويفين الصدري والبطني وفحص مواد التحنيط، وعمل ترميم لأربطة الكتان والشقوق، وفحص كتان الحشو والكتان الممتد أسفل المومياء فضلا عن العلاج الإشعاعي للمومياء للقضاء على الفطريات.
فحص الفريق جميع أجزاء المومياء، داخليا وخارجيا والهيكل العظمي والأجزاء الرخوة، وذلك باستخدام الأشعة السينية التقليدية، والفحص بالراديوغراف العادي، والتصوير الزيروغرافي والتصوير اللوني الكثافي، والتصوير باستخدام منظار داخلي، مع تقسيم أجزاء العمل في المومياء إلى ستة أقسام.
كما أعد العلماء دراسات بكتيرية وفطرية للمومياء، وأخذوا عينات من بقايا النباتات العالقة عليها، وتكمن أهمية هذه النباتات في أنها تعد أقدم عينات نباتية من نوعها في العالم، كما أخذوا عينات من بقايا حبوب اللقاح وأخشاب وحبوب ومواد صمغية وحبيبات رمال، ونشرت جميع هذه الدراسات في مؤلف ضخم صدر بعنوان “La Momie de Ramses II (مومياء رعمسيس الثاني)” في عام 1985، أي بعد تلك الفحوص العلمية بثمانية أعوام.
“آلام وأوجاع رمسيس الثاني”
تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه نهاية
أوضحت الدراسة الميكولوجية، دراسات علم الفطريات Mycologique، لبعض الأجزاء من بين أرجل وكعبي المومياء وأيضا في الكتف الأيمن أن بعض البكتريا موجودة بسبب تغيرات في الحرارة والرطوبة منذ الكشف عن المومياء في خبيئة الدير البحري التي قام بتفريغها العالم الفرنسي غاستون ماسبيرو عام 1881، وفك لفائفها رسميا في أول يونيو/حزيران عام 1886.
كما أسفر الفحص العلمي عن اكتشاف تآكل في عظام الفكين العلوي والسفلي ووجود جيوب في مستوى جذور الأسنان نتيجة تجمعات صديدية (خُراَج)، كما أوضحت الأشعة السينية وجود تسوس في منطقة الضروس، ولم تبين الفحوص وجود أي علاج للأسنان أثناء حياة الملك.
وتبين أيضا وجود آثار التهاب في الفقرات العنقية، وتصلب في الشرايين المرفقية والفخذية والساقين، واعتلال كامل في عظام الوركين، وهشاشة في شعر الرأس، كما ثبُتت إصابة الملك بالتهاب تصلبي في مفاصل الفقرات، وأن هذا الالتهاب كان يجتاح جسده في السنوات الأخيرة من عمره، وكل ذلك يدل على تدهور صحة الملك بشدة وإصابته بالتهاب المفاصل الروماتزمي Spondylarthrite ankylosante خلال السنوات العشرين قبل وفاته، بحسب دراسة نوبلكور.
واستطاع الفريق العلمي علاج المومياء بأشعة غاما وعمل التعقيم العلاجي بالإشعاع، وذلك بمعرفة مؤسسة الطاقة الذرية في غرونوبل، وأسفرت هذه العملية عن قتل معظم البكتريا الحية والفطريات داخل المومياء وخارجها، فضلا عن ترميم اللفائف وكتان الغطاء.
“معلومات جديدة في علم المصريات”
كتبت العالمة الفرنسية نوبلكور فصلا بعنوان “ما يعد إضافة إلى علم المصريات” وذلك في مؤلف “مومياء رعمسيس الثاني” الذي شمل جميع الاستنتاجات والنتائج العلمية لفحص مومياء الملك وما يعد إضافة جديدة بالنسبة لعلم دراسات تاريخ مصر القديم، المعروف اصطلاحا بـ “علم المصريات”.
وأشارت نوبلكور في الدراسة، وأيضا في دراستها اللاحقة “رعمسيس الثاني: القصة الحقيقية” أنه “خلال عملية التحنيط قام الكهنة بحشو قفصه الصدري بالكثير من المواد المطهرة القاتلة للجراثيم، وعلى ما يبدو أنهم استعانوا بأوراق النيكوتيانا (النيكوتين) بعد فرمها فرما ناعما”.
وأضافت: “أثار ذلك الكثير من العجب والدهشة لدى فريق الأطباء المعالجين، فإن ذلك النبات (النيكوتيانا) لم يكن قد عُرف بعد في مصر .. كما عُثر على الآلاف من حبوب لقاح أحد نباتات عائلة البابونج في تجويف الصدر، بالإضافة إلى بعض نبات القويصة والحوذان، وكمية من أوراق التليو مضافا إليها بعضا من نبات الصِنَار، فضلا عن حبات لقاح القطن البري، وكل ذلك يزرع بأرض وادي النيل”.
وتبين من فحص عينات لفائف الكتان التي جرى تحليلها بواسطة الكربون المشع، لمعرفة عمرها الزمني، أن الطبقة الأولى تشير إلى مدة 1370 قبل الميلاد، والطبقة الأخرى إلى 1100 قبل الميلاد، ويرجع ذلك إلى إعادة المومياء إلى حالتها الأصلية عند دفنها مرة أخرى في عصر الأسرة الحادية والعشرين عندما حدث تعدي على المقابر الملكية.
كما ثبت بالفحص المجهري للصبغات وجود صبغة صفراء مخففة لم يتأكد العلماء من طبيعتها، وإن كان من المحتمل أن تكون أثراً لنبات الحناء، كما أن التصوير بالأشعة الملونة أظهر وجود حبوب الفلفل الأسود في الأنف، كما أن الأنف كان مسدودا بقرص من الراتنغ.
“أعظم ملوك مصر القديمة”
يعد الملك رعمسيس الثاني أعظم ملوك مصر القديمة، بل من أعظم ملوك العالم في التاريخ القديم، وهو واحد من قلائل حكموا فترات زمنية طويلة امتدت إلى نحو 67 عاما، وهو صاحب أكبر عدد من الأبناء (حوالي 52 ولداً، و32 بنتاً)، وزوج الملكة الشهيرة نفرتاري، شيّد أضخم تمثال نحتته يد البشر في أي زمان ومكان (وزنه حوالي ألف طن)، وهو في موقعه في معبد الرامسيوم، بعد أن سقط بفعل زلزال.
رعمسيس الثاني صاحب أهم المومياوات من حيث تقنية التحنيط، وصاحب أضخم معبد منحوت في الصخر (معبد أبو سمبل)، وبنى أكبر عدد من المعابد في بلاد النوبة، وله أضخم صالة أعمدة في مصر بمعابد الكرنك، بل يكاد يكون الملك المصري الوحيد الذي ترك لنفسه تذكارا في كل مكان على أرض مصر، وصاحب أشهر المعارك في التاريخ القديم (معركة قادش) وصاحب أشهر وأول معاهدة سلام في التاريخ.
تولى الملك رعمسيس الثاني الحكم بعد وفاة والده الملك سيتي الأول، وقد أشار نص في معبد والده في أبيدوس أنه (سيتي الأول) أشرك معه في الحكم ابنه رعمسيس الثاني.
نقل رعمسيس الثاني عاصمة البلاد إلى بلدة في شمال شرقي الدلتا أُطلق عليها “بررعمسيس (أي دار رعمسيس)، ويعتقد علماء أنه أقامها على أنقاض عاصمة الهكسوس أفاريس (12 ميلا جنوبي تانيس)، بيد أن البعض يفضل تبني الرأي القائل بأن مدينة تانيس، عاصمة الأسرة الحادية والعشرين، هي التي شُيّدت على أنقاض مدينة “بررعمسيس” وهي الآن مدينة صان الحجر شمال شرقي دلتا مصر، والذي يرجح هذا الرأي العثور على بقايا أثرية عديدة يرجع أغلبها إلى عهد رعمسيس الثاني في مدينة تانيس.
بحلول العام الثاني من حكمه، وقبل مواجهته الحيثيين، اضطر رعمسيس الثاني إلى التصدي لهجوم القراصنة “الشردانا” وهزمهم في معركة بحرية وضمهم إلي جيشه، ولم تبدأ المعارك الحربية إلا في العام الرابع من حكمه، فقام بحملته العسكرية على سوريا.
ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال، في دراسته “تاريخ مصر القديم” إن الحملة العسكرية “سارت بالمصريين من ثارو (القنطرة) إلى أرض كنعان وصور ثم بيبلوس، ثم توغلوا شرقا في بلاد (أمورو) وفاجأوا الأمير (بنتشينا) حليف الحيثيين، فقدم لهم فروض الولاء والطاعة ثم عادوا أدراجهم إلى مصر عبر فينيقيا”.
كان انضمام مملكة أمورو إلى الجانب المصري من الأسباب التي دعت الملك الحيثي “مواتالي” إلى حشد جيش هائل بالتحالف مع ممالك أجنبية للقضاء على النفوذ المصري في آسيا، كما جهّز رعمسيس الثاني جيشه في العام الخامس من حكمه لمحاربة ملك الحيثيين، وكانت معركة “قادش” الشهيرة، والتي أمر رعمسيس الثاني بتسجيلها على واجهات وجدران أكثر المعابد التي شُيّدت في عصره، من بينها معبد الأقصر وعلى جدران معبد الكرنك وأبيدوس ومعبده الجنائزي المعروف باسم الرامسيوم في البر الغربي بمدينة الأقصر، وتسجيلها على جدران معبد أبو سمبل.
تذكر النصوص المصرية القديمة أن ملك الحيثيين أرسل إلى رعمسيس الثاني خطابا يلتمس منه العفو عن رعاياه بعد هزيمته، أما وجهة نظر الحيثيين فتذكر رواية مغايرة تتحدث عن هزيمة المصريين، بيد أن دراسة النصوص المصرية والحيثية في إطار منهجي وموضوعي أوضحت أن أحدا من الطرفين لم يحرز نصرا حاسما، وأن حدود البلدين لم يصبها أي تغيير، على أية حال كانت معركة قادش من الأسباب التي دعت رعمسيس الثاني إلى استعادة امبراطوريته في آسيا، ونظم في العام الثامن من حكمه حملة عسكرية إلى فلسطين وسوريا وأخمد ثورات هناك وأعاد الاستقرار للبلاد.
ظلت حالة التوتر مستمرة بين المصريين والحيثيين، إلى أن أدرك الطرفان أن السلام خير خطوة بينهما فأبرما أول معاهدة سلام في التاريخ، في العام 21 من حكم رعمسيس الثاني، أي حوالي 1280 قبل الميلاد، وتنتصر المعاهدة لمبادئ “الأمن والأخوة والسلام”، ونعرف تفاصيلها من نصوص مصرية ومسمارية، ولعل أبرز ما تضمنته بنودها هو تأسيس حلف هجوميدفاعي بين رعمسيس الثاني والملك الحيثي خاتوسالي الثالث، كما عززت المعاهدة رغبة رعمسيس الثاني في إبرام مصاهرة دبلوماسية وتزوج من ابنه ملك الحيثيين.
أمر رعمسيس الثاني بتسجيل هذا الزواج على جدران معبد الكرنك وأبو سمبل وتذكر النصوص المصرية أن فرعون مصر “رأى (في ابنه الملك الحيثي) أنها جميلة الوجه كأنها آلهة… ولقد وقع جمالها في قلب جلالته وأحبها أكثر من أي شيء آخر”، بل ومنحها الاسم المصري مأ أت حور نفرو رع، أي “تلك التي ترى حورس وجمال رع”.
ونعرف من مناظر معبد وادي السبوع بالنوبة أن الملك رعمسيس الثاني أنجب عددا كبيرا من الأبناء، وقد يرجع ذلك لكثرة زوجاته سواء الشرعيات (أو الثانويات)، ولعل من أشهر أولاده الأمير خع إم واست، الذي اهتم بترميم الآثار وكان كاهنا للإله بتاح، والأمير مرنبتاح الذي تولى الحكم من بعده، ويرى البعض أنه هو فرعون الخروج، استنادا للوحة منقوش عليها أحداث حملات عسكرية تأديبية خارج حدود مصر الشرقية ربطها البعض بالحادثة. لكن تظل هذه رواية غير مؤكدة.
“هل رعمسيس الثاني فرعون الخروج؟”
أدلى علماء دراسات تاريخ مصر القديم بعدة آراء في هذه القضية، إذ يرى بعضهم، دون الاعتماد علي أي نصوص أو أدلة أثرية صريحة، أن حادثة “الخروج”، المذكورة في سفر الخروج في الكتاب المقدس وبعض الآيات القرآنية، حدثت في عصر الهكسوس، وظهر رأي آخر يقول إنها حدثت في عصر الأسرة الثامنة عشر، بحسب تقسيم عصور الحكم في تاريخ مصر القديم، وبالتحديد في عهد الملك تحوتمس الثالث، وآخرون اعتقدوا أنها حدثت في عهد الملك أمنحتب الثاني، كما أن هناك فريقاً رابعاً يرى أنها حدثت في عهد الملك أمنحتب الثالث.
بل وصل الأمر ببعض المؤرخين إلى حد القول بأن حادثة “الخروج” كانت على أثر وفاة الملك أمنحتب الرابع “أخناتون”، بيد أن أكثر الآراء تداولا في هذا الصدد ترجح أن حادثة “الخروج” حدثت في أغلب الظن في عهد الملك رعمسيس الثاني، وهو الرأي الذي روجته السينما العالمية في أكثر من عمل فني، أبرزها فيلم “الوصايا العشر” الذي أُنتج عام 1956، وأخرجه سيسيل بي. ديميل، بطولة النجم الأمريكي تشارلوت هيستون ( في دور النبي موسى)، والنجم يول براينر ( في دور رعمسيس الثاني).
تبنى علماء كثيرون من بينهم مدام نوبلكور وآن ماري لويرت وكلير لالويت وفيرمان والعديد غيرهم، الرأي القائل بأن الملك رعمسيس الثاني هو فرعون الخروج في زمن النبي موسي، وإن كان أكثرهم تحمسا لهذا الرأي مدام نوبلكور التي ذكرت في دراسة لها بعنوان “رعمسيس العظيم”، شارك فيها علماء فرنسيون آخرون، أن حادثة الخروج “حدثت بين العام العاشر والثامن عشر من حكم رعمسيس الثاني”، دون الاعتماد على أي مصدر أثري مؤكد أو حقيقة تاريخية، باعترافها، في تبني هذا الرأي، وفيما يلي عرض لأبرز وجهات النظر المؤيدة والمعارضة لهذا الرأي.
تقول نوبلكور في دراستها: “بدون شك أنه خلال هذه الفترة، التي تقع بين العام العاشر والثامن عشر، من الأفضل تسجيل الخروج فيها. والحقيقة أنه ليس هناك أي وثيقة مصرية تشير إليه. وإذا حاولنا خوض المشكلة لكي نحاول تفسير الأحداث التي وقعت، فهناك بعض التفاصيل التي لا يمكن ذكرها. فاسم موسى (بمعنى المولود) بالتأكيد من أصل مصري، وهو يتشابه مع المقطع الثاني والثالث من اسم رعمسيس”.
وتضيف: “كان هناك أجانب وساميون وعبرانيون، انعزلوا في مناطق الحدود المصرية، واستقروا كمتعلمين في ميور في الفيوم. وكان هناك عبرانيون انتشروا في الشرق القديم، وأصبحوا مستقرين في مصر، ومميزين عن البدو المشاغبين من الشاسو، وعملوا في زراعة الكروم والطوب اللبن، ونعلم أيضا من خطاب من عصر الرعامسة (كلمة تشير إلى عدد من الملوك يحملون اسم رعمسيس) أنهم كانوا يعملون مع جنود الملك في سحب الأحجار نحو صرح قصر الملك”.
كما خصصت العالمة الفرنسية آن ماري لويرت فصلا كاملا عن الخروج في نفس الدراسة التي نشرتها نوبلكور مشيرة إلى أن “الخروج” حدث في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وتقول: “كان موسى يتمتع بحماية خاصة من الفرعون، وكان الملك حور محب مشغولا بمشكلة الآسيويين في مصر، وبمجرد انتهاء موسى من تعليمه، رجع إلى عشيرته. وفي هذه الفترة قام الملك سيتي الأول بتشييد خط التحصينات في الدلتا، وأيضا قصره في قنطير (أو قنتير) (الذي سيصبح مقرا للعاصمة في ظل حكم رعمسيس الثاني)”.
وتضيف: “اقترب موسى من فرعون وطلب منه أن يرحل مع عشيرته لمدة ثلاثة أيام من السير في الصحراء لتقديم قربان، واعترض فرعون على ذلك ورفض كلية واندلع الصراع. ويرجع الرفض إلى أن طلب موسى كان يقع بين العام الخامس (حملة قادش الأولى) والعام الثامن (الحملة الأخرى) لرعمسيس الثاني، وهي الفترة التي اندلعت فيها عدة بؤر للثورة بالقرب من المكان الذي أختير، قرب الحدود الشرقية”.
كما رسمت لويرت خريطة تفصيلية للطريق المقترحة للخروج وقالت: “هرب موسى من مصر ولم يتخذ طريق التحصينات، وكان آلفا للصحراء، فخرج من وادي الطميلات نحو جنوب الخليج، على طريق خال تماما من التحصينات، ووقع احتكاك بالجيش المصري في مكان قريب من المياه الضحلة في القلزم Clysma على البحر الأحمر…، وبعد أن ترك مصر، قاد موسى العبرانيين في سيناء”.
وتضيف: “أثناء حكم الفرعون الكبير (رعمسيس الثاني) ظهرت ممالك جديدة: آدوم (سعير)، مؤاب، في اللحظة التي كان فيها الملك المصري مشغولا بمشكلة الحيثيين. وبسرعة، ونظرا للخطر الجديد الذي تمثله هذه الممالك، قرر رعمسيس الثاني أن يتدخل في هذه المناطق بعد إبعاد تهديد الحيثيين، وحدث ذلك بين العام العاشر والثامن عشر من حكمه”.
من جهته، يقول الفرنسي نيقولا غريمال في دراسته السابق ذكرها: “من الممكن افتراض أن العبرانيين قد خرجوا من مصر في عهد رعمسيس الثاني. لقد تحدثنا من قبل عن جماعة (العابيرو) وظهورهم في الوثائق المصرية في عصر تحوتمس الثالث، وقد ثبت وجودهم في مصر في ظل حكم رعمسيس الثاني…، وزاولوا في عصر رعمسيس الثاني صناعة الطوب، وورد ذكر العابيرو في منطقة ميور (مدينة الغراب) في الفيوم، ولا تشير المعلومات التي وصلتنا إلى حدوث ثورات من أي نوع”.
“مشكلة في تاريخ مصر القديم”
لكن العالم المصري البارز، رمضان عبده علي، أستاذ علم الدراسات المصرية القديمة بجامعة المنيا، فند في دراسته العلمية بعنوان “رموز من تاريخ مصر القديمة ومظاهر حضارتها ودحض ما قيل بشأنها من مزاعم وأباطيل” الصادرة ضمن منشورات المجلس الأعلى للآثار، آراء نوبلكور ولويرت وغيرهما بشيء من التفصيل، مستندا إلى المصادر الأثرية والتاريخية.
ويقول إنه ليس هناك أي دليل أثري واحد يؤكد أو حتى يشير من قريب أو بعيد إلى أن هذا الملك، رعمسيس الثاني، هو فرعون الخروج، مستشهدا في ذلك بحقيقة أن “نقوش الأسرة التاسعة عشرة مليئة بأخبار الحملات الحربية التي قام بها ملوك الأسرة ضد كل ما كان يتعارض مع السياسة المصرية ونفوذها”، ولم تذكر هذه النصوص الحادثة، بحسب الأدلة الأثرية المتاحة حتى الآن، ولا الملك رعمسيس الثاني.
ويضيف: “كيف يحدث الخروج وما تبعه من أحداث بين العام العاشر والثامن عشر من حكم الملك رعمسيس الثاني، لأننا نعلم أن رعمسيس الثاني عاش حتى سن الخامسة والثمانين وأكثر (العمر قرابة 90100 سنة). وحكم حوالي 66 عاما من عام 1301 إلى عام 1235 قبل الميلاد تقريبا”.
ويقول عبده علي: “معنى ذلك أنه حكم بعد العام الثامن عشر 48 عاما أخرى. وطبقا لأقوال مانيتون أن حكم الملك رعمسيس الثاني استمر 66 عاما وشهران”.
ويضيف: “تذكر مدام نوبلكور أنه (رعمسيس الثاني) حكم 66 سنة وعشرة شهور تماما، وتعطينا لوحة من عصر رعمسيس الرابع، والتي عثر عليها في أبيدوس ومؤرخة بالعام الرابع من حكمه أن هذا الأخير كان يأمل في حكم طويل مثل الملك وسرماعت ستب إن رع (اسم العرش للملك رعمسيس الثاني ويعني هذا الذي اصطفاه رع)، المعبود العظيم، في سنته السابعة والستين”.
ويلفت عبده علي إلى أن هذا الموضوع سوف “يظل مشكلة من مشكلات تاريخ مصر القديم حتى ظهور أدلة أثرية تكشف لنا عن شخصية فرعون الخروج، وهل كان ملكاً أم وزيراً أم حاكماً لإقليم؟ وما صاحب عهده من أحداث جسام، ولكن هذا يعد من المستحيلات”.
كما أكد عالم الآثار المصري البارز، زاهي حواس، وزير الآثار السابق في مصر، مراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني على أن ربط فرعون حادثة الخروج التي ذكرت في الكتب المقدسة بالملك رعمسيس الثاني “اعتمد على ترويج هوليوود لهذه الفكرة في أفلامها”.
وأضاف: “عندما أنتجت هوليوود أفلاما ضخمة عن هذه القصة، قصة النبي موسى، لم تجد أشهر من الملك رمسيس الثاني لتجعله فرعون موسى، ولا يوجد أي دليل أثري على ذلك حتى الآن”.
وترى العالمة الفرنسية البارزة كلير لالويت، في دراستها “إمبراطورية الرعامسة”، أن عدم ذكر حادثة الخروج في النصوص المصرية القديمة ربما يرجع إلى أنه غير مهم بالنسبة لإمبراطورية بحجم مصر، قائلة: “لم ترد هذه الحادثة في أي نص مصري، لأنها كانت في تاريخ الإمبراطورية المصرية حدثا صغيرا، مثله مثل غيره من الأحداث المشابهة”.
وتضيف: “علاوة على ذلك، فإننا نتردد في وضعه تحت قيادة رعمسيس الثاني أو مرنبتاح، ابنه وخليفته، وإن كان هناك من يرجح أنه يجب وضعها تحت حكم رعمسيس الثاني”.
ويؤكد العالم المصري عبد الحليم نور الدين، أستاذ علم الدراسات المصرية القديمة بجامعة القاهرة، في دراسته “تاريخ وحضارة مصر القديمةمنذ بداية الأسرات وحتى نهاية الدولة الحديثة” أن الملك رعمسيس الثاني “ارتبط اسمه بحادثة الخروج وموسى من مصر، لكن ليس هناك ما يؤكد حتى الآن صلته بهذا الحدث”.
ويضيف: “إذا كان البعض قد ربط حادثة الخروج باسم الملك رعمسيس الثاني، فإن الأمر لا يعدو أكثر من مجرد افتراض، اعتمد فيه أصحابه على كون رعمسيس الثاني هو صاحب كل الأحداث البارزة، وليس هناك من أدلة أثرية أو نصية تشير إلى ذلك. (ولذا)، سيظل الأمر مثار جدل بين الباحثين، إلى أن تبدو في الأفق أدلة أثرية تحسم هذا الأمر”.
“حبيبات الرمال”
تحدثت نوبلكور في دراستها السابق ذكرها عن اكتشافٍ أثار انتباه البعض وهو أن مومياء رعمسيس الثاني قدمت دلائل تؤيد ما يمكن أن يفترضه المؤرخ بأن تحنيطه جرى قرب عاصمة الشمال، وتقول “لعلنا نعرف أن رعمسيس الثاني قد جرى تحنيطه بداية، بمنطقة شمال مصر، على مقربة من عاصمته بررعمسيس، وقد عملت ذرات الرمال الصحراوية البحرية أصلا، العالقة بشعر المومياء، على تكملة المعلومات التي جمعناها، والمحددة تماما للموقع الذي حنطت فيه مومياء الملك: لا شك أنه الدلتا، بعيدا عن نهر النيل”.
وتبنى عبد المنعم عبد الحليم سيد، أستاذ التاريخ القديم والآثار بجامعة الإسكندرية، في دراسته “البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة”، رأي نوبلكور قائلا: “هناك حقيقة ذات أهمية كبيرة اتضحت عندما نُقلت مومياء الملك إلى باريس عام 1976 لترميمها، وهي وجود نوع من رمال صحراء شرق الدلتا عالقة بها. وقد استنتج الباحثون الفرنسيون أن رمال شرق الدلتا قد علقت بالجثة أثناء تحنيطها تحنيطا أوليا في أحد أماكن مدينة بررعمسيس في شرق الدلتا”.
بيد أن عبده علي لا يتفق مع رأي نوبلكور وعبد المنعم بشأن أن حبيبات الرمال من الأصل الصحراوي والبحري، والتي كانت لا تزال عالقة على شعر وأصابع القدم تدل على أن جثة الملك تعرضت لعملية تحنيط أولى في الدلتا، ويبرهن على وجهة نظره بأن “حبات الرمل لا تعد مصدرا أثريا يُعتد به”.
وأشارت الفرنسية جوزيت تورنك في تقريرها عن “حبيبات الرمل التي وجدت عالقة على المومياء”، في الدراسة بعنوان “مومياء رعمسيس الثاني”، إلى أنها تشبه حبيبات الرمال الموجودة في مدينة الأقصر، في صعيد مصر، وأن هذه الرمال دخلت المومياء عند إعادة وضعها (دفنها) في مكانها الجديد في خبيئة الدير البحري على يد كبير كهنة آمون، باي نجم الثاني، في عصر الأسرة الحادية والعشرين.
ويلفت عبده علي إلى حقيقة أخرى مهمة، وهي أن “مومياء الملك رعمسيس الثاني أصابها جفاف شديد، ولهذا كان من الصعب أو من المستحيل على العلماء الفرنسيين، على الرغم من تلك التجارب والفحوصات بأحدث الأجهزة، التوصل إلى أن الملك توفي نتيجة (احتباس التنفس بسبب الغرق)”.
ويضيف: “تلك التجارب والفحوصات أثبتت حقيقة جلية وهي تدهور صحة الملك بسبب كبر سنه وأنه لم يتعرض لأي حادث طارئ أودى بحياته في هذه السن المتقدمة. وأمكن بفضل التصوير بالأشعة رؤية بقايا عضلات وشرايين دم الملك والتي كانت مسدودة كلية”.
ويقول إن كل هذه الآراء لا تعتمد على مصادر أو شواهد أثرية مؤكدة لكي تدعمها “ولم نجد حتى الآن نقشاً أو نصاً واحداً على الآثار المصرية والمصادر التاريخية تؤيد أي رأي من هذه الآراء أو تدفعنا لإبداء رأي جديد، بل على العكس ظلت المصادر الأثرية والنصوص المختلفة حتى يومنا هذا على صمتها إزاء هذا الموضوع، الذي أصبح في الواقع مشكلة من مشكلات تاريخ مصر القديم”.
المصدر: صحيفة الراكوبة