
حسب الرسول العوض ابراهيم
ألقى محمد حسن التعايشي رئيس وزراء حكومة “تأسيس” خطابه الأول قبل أيام وهو خطاب يستحق الوقوف عنده بعيدا عن الموقف من الحكومة ذاتها أو مشروعها السياسي المثير للجدل. فالخطاب في مضمونه بدا متماسكاً وواقعيا، حيث لامس قضايا السودان الكبرى دون مواربة مثل وقف الحرب، صون وحدة البلاد، بناء جيش قومي مهني وترسيخ الحكم الراشد القائم على الشفافية وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، كما أولى اهتماماً واضحا بقضايا الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وأمن وكهرباء ومياه إلى جانب استغلال الموارد الوطنية. وهذه كلها مطالب مركزية فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجتها.
لكن الخطاب لم يخل من عيوب جوهرية ، إذ دعا إلى هدم السودان القديم وبناء سودان جديد من الصفر وكأن كل ما هو قائم غير صالح. هذا الطرح يبدو غير واقعي ولا ينسجم مع طبيعة المجتمع السوداني. فالبنية الاجتماعية رغم تصدعها مازالت تحمل جوهر الهوية الوطنية ولا بد من ترميمها عبر المصالحات والعدالة الانتقالية لا عبر القطيعة الكاملة. فالمشكلة لم تكن في دولة 1956 التي ولدت بقبول شعبي كبير آنذاك ، وإنما في فشل النخب التي أجهضت تجربتها وأساءت إدارتها. ومن ثم فإن الوفاء للتضحيات التي بُذلت في سبيل تأسيس تلك الدولة يقتضي إصلاحها وصيانتها لا هدمها ، وإلا فقد تقع حكومة “تأسيس” نفسها في ذات علل الماضي إن أعادت إنتاج أخطاء النخب السابقة .
في المقابل جاء خطاب حكومة بورتسودان برئاسة كامل إدريس قبل أشهر قليلة مخيبا للآمال إذ تبنّى نهج الاستمرار في الحرب وأشاد بالمليشيات المنخرطة في الحرب ولم يطرح أي رؤية جادة للسلام أو لإعادة بناء الدولة. كان خطابا موجهاً بالأساس إلى دعاة الحرب الذين لا يرون في السودان سوى ساحة صراع واقتتال ، ويخوِّنون القوى المدنية المناهضة له. ومع تكوين الحكومة ظهر جليا غياب الانسجام بين مكوناتها حيث جمعتها الرغبة في اقتسام السلطة أكثر مما جمعها أي مشروع وطني ، قبل أن تطفو إلى السطح ملفات الفساد والخلافات البينية.
وفقا لمعايير فلاسفة الفكر السياسي فإن نجاح أي دولة يتأسس على ثلاث ركائز أساسية : مؤسسات قادرة على فرض النظام وتقديم الخدمات وسيادة حكم القانون ، وآليات مساءلة فعالة. وإذا طبقنا هذه المعايير على حكومة “تأسيس” وحكومة بورتسودان نجد أن كلاهما يفتقد الشرعية والقدرة على بناء دولة حديثة. فالشرعية ليست بالضرورة انتخابية فقط، بل يمكن أن تستمد من “التراضي المجتمعي” وهو ما لا يتوفر لأي من الحكومتين.
المقارنة بين الخطابين تكشف تناقضا عميقًا ، حكومة “تأسيس” تقدم خطابا إصلاحياً واعدًا لكنه محكوم بوهم القطيعة مع الماضي ، بينما حكومة بورتسودان تقدم خطابًا تعبويا
حربياً يغرق البلاد في مزيد من الدماء والفساد. وإذا استطاعت حكومة “تأسيس” أن تنفذ برنامجها ولو جزئيًا في مناطق سيطرتها فقد تكسب ثقة قطاعات واسعة من المواطنين مما يضعف حاضنة حكومة بورتسودان وربما يفتح الباب لثورة داخل مناطق نفوذها. لكن في المقابل فإن نجاح “تأسيس” ولو على نطاق محدود قد يعزز احتمالات الانفصال، بما يشكل تهديدًا مباشرا لوحدة السودان.
نستطيع القول إن السودان اليوم يقف على حافة هاوية خطيرة ، بين خطاب تأسيس الذي يلوّح بانفصال جديد عبر وهم القطيعة مع التاريخ وخطاب بورتسودان الذي يغرق البلاد في مستنقع الحرب والفساد. وكلا المسارين يقود إلى الخراب ، فلا بناء دولة مع الانفصال، ولا وحدة وطن مع استمرار الحرب.
كاتب ومحلل سياسي
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير