لا خطة صينية لوراثة أميركا
د. مهند الحاج علي
لافتة جداً التعليقات العربية على دور الوساطة الصينية في الإتفاق السعوديالإيراني، ومنها تعابير كبيرة مثل “الاختراق الاستراتيجي” و”الموعد الصيني”، واستبدال النفوذ الأميركي. لكن مثل هذا الطرح المبني على الفوز والخسارة، يفوته معنى هذا الدور الصيني وسياقه، وما نوع السياسة التي سيُؤسس لها في المنطقة.
بداية، يأتي الدور الصيني في المنطقة في ظل تحول بطيء لكنه جذري في السياسة الخارجية الصينية. نظراً الى التركيز على النمو الاقتصادي والمالي، كانت بكين، وفقاً لوصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، “راكباً بالمجان” في السياسة الدولية، أي أنها تستفيد من الاستقرار الإقليمي من دون أي استثمار فيه. أساس السياسة الصينية هو اقتناص “الفرص الاستراتيجية”، وليس صناعتها. حين تطل فرصة استراتيجية برأسها، تتقدم السياسة الصينية باتجاهها. لا منافسة شديدة في هذه المقاربة، بل مجرد ملء لبعض الفراغات (وليس جميعها).
لكن مثل هذه المقاربة أيضاً تختزن احتمالات صدام مع واشنطن، وهذا التنافس بيّن. والتوترات بين البلدين وصلت الى ذروتها مع أزمة بالون التجسس الصيني الذي أسقطه الطيران الأميركي مطلع الشهر الماضي. الخبير الأميركي في الشأن الصيني جيمس كرابتري كتب مقالاً في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تحدث فيها عن احتمالات الصدام الصينيالأميركي وتصاعد التوترات بين البلدين. أشار الى كلمة للرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ تحدث فيها عن تطبيق الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة سياسة احتواء وحصار وقمع للصين، انعكست في “تحديات شديدة وغير مسبوقة لنمو بلدنا”. إدارة الرئيس جو بايدن قررت تعزيز موقعها في مواجهة الصين في أكثر من محور، بدءاً بتقارب مع الهند (مبادرة مشتركة في مجال التكنولوجيا)، وسياسة دفاعية جديدة مع اليابان (تعزيز القدرات اليابانية بشكل أثار حفيظة الصين).
لهذا علينا طرح سؤال عن ماهية الردود الأميركية حيال الدور الصيني المرتقب في إطار الاتفاق السعوديالإيراني. هل تسمح الولايات المتحدة للصين بدور ريادي في الحفاظ على استقرار المنطقة؟ صحيح أن واشنطن تتهم بكين بأنها “راكب مجاني”، لكنها في الوقت ذاته لا ترغب في دور قيادي صيني في هذا السياق. لهذا السبب، تنتقد الإدارة الأميركية مبادرة “الحزام والطريق” الصينية المعروفة في العالم العربي باسم “طريق الحرير”، ومعها الاتهامات بـ”فخ الديون” الصينية. ذاك أن المبادرة باتت تُنافس المؤسسات الدولية في مستوى انفاقها، وفقاً للأكاديمي يونغ دينغ في كتابه “الفرصة الاستراتيجية للصين” الصادر العام الماضي عن دار جامعة كامبردج. الكاتب يُدرج رقماً مصدره معهد “أميركان انتربرايز” (جمهوري الهوى في واشنطن)، ومفاده أن الصين أنفقت بين كانون الثاني (يناير) عام 2014 وحزيران (يونيو) عام 2018، مبلغ 255.5 مليار دولار على مشاريع الإعمار، و148 ملياراً إضافية على قطاعات أخرى. يُقارن الكاتب هذه الاستثمارات بخطة مارشال لإعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كلفت الولايات المتحدة 12.5 مليار دولار، أي ما يُعادل 110130 ملياراً اليوم مع احتساب تطور قيمة المال خلال العقود الماضية. بكلام آخر، أنفقت الصين في مشروعها الإقليميالدولي أكثر من ضعفي ما أنفقته الولايات المتحدة في حقبة تأسيسية لنفوذها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبات مشروع “الحزام والطريق” (طريق الحرير) بمثابة مؤسسة دولية تُؤخذ في الحسبان. في الشرق الأوسط على سبيل المثال، استثمرت بكين حوالى 123 مليار دولار في سياق “الحزام والطريق”.
دينغ يُشير أيضاً الى نمو نفوذ الصين في المؤسسات الدولية، أكان في الأمم المتحدة أو غيرها من المؤسسات الدولية. شكت الولايات المتحدة مثلاً نمو نفوذ الصين في منظمة الصحة العالمية، وقطع عنها الرئيس السابق دونالد ترامب التمويل. الصين كذلك ضاعفت مساهمتها في “صندوق النقد الدولي” وتُحاول الحصول على حقوق أكبر داخله للتأثير في قراراته. لكن بكين نفسها من الجهات المانحة للقروض دولياً، إذ باتت في جعبتها قروض للدول النامية تتجاوز قيمتها 135 مليار دولار (الرقم من عام 2019).
لكن هذه العلاقات الاقتصادية والمالية والنفوذ المرتبط فيها، غير كافية للعب دور رئيسي في الشرق الأوسط وغيره. ذاك أن الصين لا تملك وجوداً عسكرياً، وليس لديها قدرات دبلوماسية وعلاقات وشبكات داخل هذه الدول على قدر يسمح بهذا التنافس. واستبدال الولايات المتحدة في المنطقة يحتاج الى سنوات من العمل الجاد، وما نراه اليوم لا يُوحي حتى بالمحاولة. القواعد والعلاقات العسكرية والمدنية وشبكات النفوذ والتجسس الأميركية على حالها في المنطقة، وهذه الخطوة الصينية ستستدعي مقاربة أميركية مختلفة قد تحيك بنفسها شكل المنطقة مجدداً. اللعبة في بدايتها، وهذا الاتفاق حركة أولى غير كافية لبناء كل هذه الأوهام.
المصدر: صحيفة التغيير