لابد من تحسين أنماط التفكير ! (1 5)

د. أنور شمبال
تنكّبت البلاد، وتكّشفت عوراتنا، وتهتّكت أوصالنا، تضضعت قوتنا، وذهبت ريحنا، فهل قبضنا بهذا الثمن الباهظ رشداً ووعياً نصحح به عثراتنا؛ أم قبضنا الريح، ولم تزل الساقية مدوّرة بلا هدي، ولا طريق قويم؟!… ما الحصاد إلّا من جنس المزروع، وقد بتنا نحصد ونتجرع ما زرعه ساسة السودان والعسكريين، ومما كسبت أيدي أهله. من يزرع الخوف فلن يحصد الشجاعة، ومن يزرع الضعف فلن يحصد القوة، ومن يزرع الاستهتار فلن يحصد مسئولية!. فقد كان الحصاد من جنس المزروع.
فإن أردنا الاصلاح فلابد من تحسين نوع البذرة وزراعتها في أرضنا المعطاءة، ورعاية الزراعة الجديدة مع الحرص على اقتلاع الحشائش المتسلقة، والضارة منها حتى لا تذبل أو يصيبها الهزال…
مرَدوا على النفاق:
أكمل الحرب حولين كاملين من عنف مفرط الذي لا يسمع معه صوت العقل والمنطق، فكان لزاماً علينا الصمت عن الادلاء بآرائنا؛ وحان الفطام!… وأظن أنّه الآن بدأت تعود العقلانية وانخفضت الأنفعالات الزائدة، فمعاً نراجع أنفسنا، والنظر لهذه الحرب بعقلانية، مع الأخذ بتجاربنا السابقة وتجارب الدول التي تجرعت من ذات الكأس في العقد الذي نحن فيه.
نعم لم يكن بين قادة اليوم رجلٌ رشيد، فقد خرّبوا بلدهم بأيّديهم، وأيدي المخابرات العالمية!. ولا تثريب عليهم لأنّهم تربّوا ونشّأوا على ذلك، عبر تنظيماتهم السياسية، ومؤسسات حكوماتهم (الأمنية والعسكرية، والتعليمية، والاقتصادية، والإعلامية، والاجتماعية). إنهم فقدوا الضمير الإنساني، والحس الوطني، والوازع الديني؛ ومرَدوا على النفاق!… وقد سبق لهم عزل عرّابهم، والزج به وبمفكريهم في السجون، ثم قسّموا البلاد إلى قطرين متنافرين، ثم أداروا حروباً لا هوادة فيها في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، ولم نعتبر ولم نتعظ. كان شعارهم عالياً داوياً “أو ترق منهم دماء أو ترق منّا دماء أو ترق كل الدماء” فها هي قد أراقت كل الدماء وكل الثروات وماء الحياء.
وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ:
يقول الله عز جل في كتابه الكريم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) سورة هود
يا حبذا ربطنا القرآن الكريم بواقعنا وبحياتنا اليومية، لنبصر به الطريق القويم، فالآيات الكريمات تعزز ثبات معادلتان كونيتان: أنّ الله لا يهلك قرية وأهلها مصلحون، أي إنّ الغالبية مصلحون، فأمّا إذا كان الغلبة ظالمين فإنّ الهلاك واقع لا محال فلا منفعة لصلاح أقلية إلّا لأنفسهم. والقاعدة الثانية سيظل الناس مختلفين إلى يوم القيامة. فالقاعدتان مهمتان جداً لاستيعابهما وفهمهما من أجل ايقاف الحرب، ومعالجة ما نحن فيه.
اعادة بناء السودان:
آلآن يتطلب أخذ الأنفاس ورفع العزيمة وتقويم التجربة المرة، وكسر أسوار الظلام، بمستوى أعمق من التفكير (تحسين نماذج التفكير القديمة)، وفهم جديد وتصور مختلف؛ واعادة بناء السودان بتراضي الأغلبية أو أهله كافة، بحيث يكون الجميع ينظرون إلى أنفسهم في مرآته، والجميع رابح، ولا يرضى أحدٌ بخسارة الآخر؛ بمعيار المعادلتين الكونيتين. فقد أثبتت الحرب إنّ مؤسسات الدولة لم تكن على قدر مسؤولياتها ولم تساس لخدمة الشعب، وإنّما تم توظيفها لخدمة الأنظمة الحاكمة، وخدمة مصالح فئات محدودة من الناس لا إحساس لهم بمعاناة الشعب، إن لم نقل تتمتع بعذابهم. وبالتالي الضرورة تتحتم اعادة مأسستها لتكون في خدمة الشعب والوطن وبلا تمييز.
المكسب/ المكسب:
يبدأ التحسين أو التغيير الحقيقي (سياسي، اجتماعي، اقتصادي وإعلامي) الذي ننشده وندعوا له ونعلق آمالنا عليه ، من الداخل وليس من الخارج ولا مستورد. يبدأ التحسين من إرادتنا الذاتية، من المواطن الذي شَقِيَ وضحى من أجل كرامته، من داخل نفسك التي بين جنبيك، من داخل الوطن سمواً وكبرياءً، من داخل مؤسسات الدولة اعتماداً على قاعدة المكسب/ المكسب. واستلهام الهمم، ههم الذين ناضلوا من أجل السودان ومنعته، وهمم علمائه، وصاليحيه، وشبابه الوثّاب.
وقد حان للشباب الذي يمثل أكثر (50%) من تعداد السكان، أن يتسنّم المسؤولية، حيث لا توجد لديهم عقد نفسية ومجتمعية كالتي عند آبائهم… ولم ولن تعقر حواء السودان من ولادة قائداً وقّاداً يقود هذه البلد العظيم إلى بر الأمان والسلام؛ و يذهب كل ما هو قديم محزن أدارج النسيان، وغداً لناظره قريب!. الإنسان يقوّي نفسه باعتماده على نفسه، ويضعف باعتماده على غيره؛ فمن لا يستطيع تغيير وتحسين نسيج أفكاره التي أوقعته في المهالك لن يكون قادراً على تغيير الواقع إلى الأفضل ولن ينجح.
تدحرجت الهمة:
إنّ حرب 15 أبريل 2023م التي دخلت سنتها الثالثة حسوماً، وهي تحصد الأرواح وتهتك العروض وتهلك الثروات بلا رحمة، أثبتت بالدليل الساطع أنّ المؤسسة العسكرية والأمنية التي تغذت من المواطن دافع الضريبة تدريباً وتأهيلاً، وحازت على النسبة الأعلى من ميزانيات البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان(72%) من الفصل الأول (مرتبات)، و(65%) من الفصل الثاني (تسيير) من ميزانية الدولة للعام 2000م، مقابل (10%، و 10%) للتعليم بما فيه التعليم العالي، و(1.3%، و 4%) للصحة على التوالي؛ هي ليست بقدر المسؤولية في توفير حماية للشعب وخدمته. وإنّما تدحرجت همتها، وتم توظيفها لحماية النظام، وخدمة فئات بعينها من المجتمع السوداني، ولها ولاءات خاصة، والشواهد “على قفى من يشيل”. وهي المسلّمة القاسية التي يجب الاعتراف بها أوّلاً، ثم البدء في عملية التغيير والاصلاح، حيث لا يجدي البكاء والندم، ولا فائدة من لواكة الحديث والجدال في الموضوع، ولا يجدي الترميم.
وما أشبه الحال بسور الصين العظيم!
ليس مبرراً لمؤسسة بهذا التاريخ والأصالة ولها من مؤسسات تدريب وتأهيل، وأكاديميات، وآليات وتقنيات، وخبرات متراكمة لأكثر من نصف قرن من الزمان، والمستحدثة المستمدة من التدريب والتأهيل المتقدم في الدول الكبرى، أن تقع في هذا المأزق الذي وقعت فيه، وهي حريصة بأداء رسالتها الممثلة في حماية الوطن وتوفير الأمن للشعب. وما أشبه حالها بمسوّقات إنشاء سور الصين العظيم، والذي يستخلص منه ويعزز أهمية الاعتناء بالعنصر البشري وتقديره في حماية الأوطان، وليس غيره. وهناك مقولة شهيرة منسوبة إلى الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت “ليس هناك جنود سيئون، بل هناك قادة سيئون”.
أسهم التنظيمات السياسية:
إنّ الأحزاب السودانية والتنظيمات السياسية ضعيفة، قهرتها الحرب و(لم تكد تهش ولا تنش!). لاعتبار أنّ بعضها عبارة عن واجهات يعيش عليها مجموعة من الناس، وسلِّمٌ للوجاهات التي لا علاقة لها بالإرث السوداني، ولا خدمة إنسانه. وبعضها واجهات لمصالح أجنبية، خاصة إذا ما علمنا أنّ غالبية الأحزاب هي عبارة عن منصات لتنظيمات غير سودانية، أي فروع لأحزاب وتنظيمات لدول عظمى أم دول “عظم”، وبعقلية التسوّل لا بعقلية السطو. وبعض التنظيمات والحركات المسلحة هي صنيعة الأجهزة الأمنية للنظام السابق، محاولةً منها للّعب بالبيضة والحجر، كالذي نعيشه اليوم، وبالتالي فهي كثيرة العدد، وليست لها أهداف ولا برامج معلنة لوجودها.
أين مواقع الشباب؟
فلنرجع البصر كرتين أو ثلاث إلى قادة هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية، والحركات المسلحة، من هم؟ وكيف جاءوا؟ وما مستواهم التعليمي؟ وعلى أي أساس نشأت تنظيماتهم (فكرياً وأخلاقياً ورسالياً)؟ ومن أين تموّل؟ وماذا قدموا لمنسوبيهم وللوطن؟ وما دورهم في المآلات التي آلت إليها البلاد؟! وأين مواقع الشباب منها؟… قد يكون لكلٍ منّا إجابه على هذه الأسئلة، ولكن يتفق الجميع على أنّ أولئك لهم سهمهم الكبير في جرّ البلد إلى هذا الدّرك. أيّ إن بعضها استفادت من النظام السابق، كونت ثروتها ونفوذها، بالتالي مصلحتها تقتضي ابقاء الحال على ما هو عليه. فإذن هي جزء من المشكلة، ولن تكون جزءً من الحل، مهما تحايلت وتلوّنت. وهي ذات الأخطاء التي ارتكبت بعد إجلاء الإنجليز والمصريين من حكم البلاد سنة 1956م.
ونواصل
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة