بعد عام ونحو ثلاثة شهور من الحصار الخانق، ومئات الهجمات المتتالية لقوات الدعم السريع، لا زالت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور تحت قبضة الجيش السوداني والقوة المشتركة الحليفة، وسط تساؤلات عن سر صمود المدينة الطويل مقارنة بمقرات الجيش الأخرى التي تساقطت تباعاً في إقليم دارفور.
استمعت “دارفور24” لروايات عدد من الجنود المقاتلين في صفوف الجيش والقوة المشتركة حول أسباب صمود الفاشر، كما حصلت على إفادة من قوات الدعم السريع حول فشل خطتها في السيطرة على المدينة.
قال زكريا عثمان، أحد المقاتلين في الجيش السوداني، لـ”دارفور24″، إن “العقيدة القتالية والدافع الوطني للدفاع عن الأرض، هما ما يجعلنا نصمد ونصد الهجمات المتكررة”.
وأضاف أن معظم المقاتلين هم من أبناء المدينة، وليس أمامهم خيار سوى حمل السلاح والدفاع عنها.
وأوضح عثمان، المولود في الفاشر والملتحق بالجيش منذ عام 2006، أن لديه خبرة واسعة بمختلف أنواع الأسلحة والتكتيكات الحربية، مؤكداً قدرته على قيادة سرية كاملة في حال فقدان القيادة أثناء المعارك.
الترابط الاجتماعي
من جهته، قال يس عبدالرحمن، أحد المقاتلين في القوة المشتركة، إن “التركيبة السكانية والترابط الاجتماعي بين الأهالي، هو ما يمنح الفاشر قوتها ويجعل المجتمع بأسره يقف صفًا واحدًا في وجه محاولات سقوط المدينة، رغم النقص الحاد في الغذاء والدواء ومياه الشرب”.
وأشار يس إلى أن توفر عدد كبير من المقاتلين داخل المدينة أتاح إمكانية التناوب، حيث يحصل كل مقاتل على إجازة دورية لمدة ثلاثة أيام، مما يساعدهم على الحفاظ على تركيزهم وقدرتهم القتالية أثناء الهجمات.
وأضاف: “أخدم يومين فقط في الأسبوع، والموقع الذي ندافع عنه يضم أكثر من 100 مقاتل من مختلف التشكيلات، وهو ما يصعّب على قوات الدعم السريع اختراق أي جبهة بسبب صلابة المقاومة”.
كما تحدثت حواء عبدالله، إحدى النساء المقاتلات في الفاشر، عن دور النساء في الدفاع عن المدينة، مشيرة إلى أنها تلقت تدريبات على استخدام السلاح برفقة نحو 200 امرأة وفتاة خلال العام الماضي.
وقالت حواء: “نشارك في عمليات الإخلاء والإسعاف ونؤمّن خطوط التغطية النارية خلال سحب الجرحى، صمود الفاشر يرجع إلى الرابط الاجتماعي والمكوّن الإثني الذي يميّز المدينة، حيث يشارك الجميع في الدفاع عنها دون مقابل”.
وأضافت أنها شاركت في جميع المعارك، بما فيها آخر مواجهة دارت في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة الأسبوع الماضي، حيث قاتلت إلى جانب عناصر الجيش والقوة المشتركة والمستنفرين.
وتابعت: “عند سماع أصوات الاشتباكات، يسرع الجميع إلى مواقع القتال لدعم الجبهات وسد أي ثغرة محتملة، والكل يلتزم بالدفاع عن القطاع الذي تم توزيعه فيه”.
وختمت بالقول إن “قوة وشراسة الشباب تتجلى في لحظات القتال، حيث يواجهون الموت بشجاعة، بدافع حماية مدينتهم ومنع سقوطها في يد قوات الدعم السريع”.
وأجمع المقاتلون الذين تحدثوا إلى “دارفور24” أن السبب الرئيسي لصمود الفاشر هو إصرارهم وعزيمتهم، إلى جانب الوحدة الاجتماعية والتضامن المجتمعي خلف المقاتلين في خطوط الدفاع.
عزيمة وصمود
واشتدّ الحصار الخانق الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، مما تسبب في تدهور الأوضاع المعيشية للسكان وجعل أغلبهم يعتمدون على علف الحيوانات في طعامهم.
إلا أن محمد آدم كش، رئيس حركة تحرير السودان قيادة مناوي بشمال دارفور، يقول لـ”دارفور24″ إن الحديث عن نقص المواد الغذائية في مدينة الفاشر لن يؤثر على عزيمة السكان أو يثنيهم عن مواصلة الصمود والدفاع عن المدينة.
وشدد كش على أن مثل هذه التحديات لا تُعد مؤشراً على الضعف، بل تُعد في نظره “بشائر نصر” ودليلاً على ارتباك خصومهم، مؤكداً أن أبناء الفاشر يتمتعون بالقوة والثبات في وجه الأزمات.
وأضاف أن “مدينة الفاشر، ظلت عبر التاريخ حصناً منيعاً في وجه المتربصين، ووجهة لكل من ينشد العزة والكرامة، وأن أهلها موحدين في مواقفهم، وقادرين على تخطي الصعوبات الراهنة”.
واختتم حديثه بالتأكيد على أن “الفاشر لا تجوع، لا تضعف، ولا تُهزم”، موجهاً رسالة لكل من يشكك في ذلك بأن يعود إلى صفحات التاريخ.
وبدأت قوات الدعم السريع حصار الفاشر في أبريل من العام الماضي، في محاولة للسيطرة على المدينة التي يحتفظ الجيش فيها بآخر مقراته في إقليم دارفور، بعد خروجه من مدن “نيالا، زالنجي، الجنينة، والضعين” خلال عام 2023.
وضع مختلف
لقوات الدعم السريع رأي مختلف حول فشلها في السيطرة على مدينة الفاشر، بعد أكثر من عام على الحصار والهجمات المتتالية.
أوضح مصدر سياسي مطّلع تابع لقوات الدعم السريع، رفض الكشف عن اسمه، أن جملة أسباب حالت دون تمكن القوات من السيطرة على الفاشر، بينها أن “الوضع الميداني والمعطيات العسكرية في المدينة تختلف تمامًا عن بقية مدن دارفور” وفق قوله.
وقال المصدر لـ”دارفور24″ إن فترة وقوف حركتي “تحرير السودان والعدل والمساواة” في الحياد، تمكن الجيش السوداني، من إدخال أسلحة نوعية ومتطورة إلى الفاشر، بما في ذلك الطائرات المسيّرة التي وصلت إلى المدينة حتى قبل أن تُستخدم في معارك الخرطوم، وفق قوله.
وأشار إلى أن معظم الألوية والوحدات العسكرية التابعة للجيش والحركات المسلحة في إقليم دارفور تم سحبها وتجميعها داخل مدينة الفاشر، بعد سيطرة الدعم السريع على غالبية مدن دارفور، وهو ما منح القوات المدافعة ميزة كثافة النيران.
وذكر المصدر أن قيادات رئاسة الحركات المسلحة اتخذت من الفاشر مقرًا لها، وأطلقت حملات تعبئة واسعة شملت المدنيين، الذين جرى تجنيد العديد منهم قسرًا تحت شعارات “الدفاع عن الأرض والعِرض” وفق قوله.
واتهم الحركات المسلحة بنهب أموال البنوك والشركات داخل المدينة واستخدامها في شراء الأسلحة وتحصين مواقعها العسكرية بجانب استغلال موقع المنظمات الأجنبية.
وأضاف المصدر أن مدينة الفاشر شهدت تحصينات غير مسبوقة، حيث تم تحويل الحاويات التي تعود ملكيتها لمنظمات إنسانية إلى مواقع دفاعية داخل خنادق، كما جرى حفر معظم الشوارع وتحويلها إلى خطوط دفاع.
كما اتهم الحركات باستخدام مخيمات النازحين كقواعد عسكرية، والمواطنين كدروع بشرية، مما يجعل استهداف تلك المواقع محاطًا بقيود قانونية وإنسانية.
وأشار كذلك إلى أن قوات الدعم السريع تفتقر لأي حاضنة اجتماعية داخل الفاشر، ما ساهم في صعوبة تحقيق اختراق حقيقي في المدينة.
وختم المصدر حديثه بأن معركة الفاشر باتت معركة استنزاف طويلة الأمد، لا تحسمها فقط القوة النارية، بل تُحدّدها اعتبارات سياسية وعسكرية معقّدة، حسب قوله.
مشاركة الجميع
من جهتها أكدت الرقيب أول آسيا الخليفة، المراسلة الحربية في القوات المسلحة السودانية، أن صمود مدينة الفاشر في وجه المعارك يعود إلى عزيمة وإصرار المقاتلين، وترابطهم في الميدان، مشيرة إلى أن “الجميع يقاتل من أجل النصر أو الموت دفاعًا عن المدينة”.
وأوضحت آسيا، التي تُعد أول امرأة في الجيش السوداني تعمل مراسلة حربية ميدانية، في تصريح لـ”دارفور24″ أنها خلال عامين غطّت ما لا يقل عن 225 معركة، إلى جانب المناوشات والاشتباكات اليومية مع قوات الدعم السريع في مختلف الاتجاهات داخل الفاشر.
وأضافت أن حضورها اليومي في الارتكازات يرفع من معنويات الجنود، حيث يقول المقاتلون: “إذا كانت آسيا تقاتل، فلماذا لا نقاتل؟” وفق قولها.
وذكرت أن المعارك حينما تندلع يتوجه جميع الأهالي من نساء ورجال وأطفال، حيث يتوجهون إلى جبهات القتال، ويواجهون المخاطر رغم خطط التراجع أحيانًا.
وأشارت إلى أن المدينة بأكملها تشارك في دعم القوات المسلحة من خلال تقديم الماء، وإسعاف الجرحى، وإخلائهم من مواقع الاشتباك.
وتحدثت آسيا عن تفاصيل سيارتها القتالية من نوع “لاندكروزر”، والتي استولت عليها من قوات الدعم السريع برفقة عدد من الجنود بقيادة المقدم أحمد بيضة، مشيرة إلى أنها تعلمت قيادتها بعد الحرب وتحرص على فحصها يوميًا.
دارفور 24
المصدر: صحيفة الراكوبة