اخبار السودان

كيف تنتزع القوى المدنية مصير السودان من طاحونة الحرب؟

 رشا عوض

إن الحرب الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في قلب العاصمة الخرطوم منذ 15 أبريل 2023 ، وضعت القوى السياسية المدنية المنحازة للتحول الديمقراطي أمام تحديات نوعية جديدة على خلفية دوي الرصاص والانفجارات، وأزيز الطائرات الذي يطغى باستكبار غليظ على صوت العقل، وغبار المعارك الكثيف الذي يحجب الرؤية، وعلى خلفية البعد السياسي لهذه الحرب ممثلا في مخطط الفصيل الانقلابي من فلول نظام البشير والذي يتلخص في إعدام فرص التحول الديمقراطي واخراس الصوت المدني بالقوة لصالح دكتاتورية إسلاموية تستخدم الجيش والأجهزة الأمنية كأداة لقمع الخصوم، وتطوي تماما صفحة “الإصلاح الأمني والعسكري”.

ولكن ألا تكمن في طيات التحديات فرص مفتوحة على المستقبل؟ وهل تنزوي قوى التحول المدني الديمقراطي أثناء المعركة في انتظار نتائجها دون تأثير على مجريات الأحداث؟ طرحت هذا السؤال على الدكتور الباقر العفيف مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة فأجاب بالنفي القاطع، وشدد على ان هذه الحرب تستوجب بناء جبهة مدنية موحدة تترجم شعار “لا للحرب” إلى أفعال تتسق معه، سواء على الصعيد الإنساني، أو على الصعيد السياسي، وفي هذا السياق حذر العفيف من حالة “الفراغ السياسي وغياب الخطاب الموحد” وأكد أهمية تصدي الجبهة المدنية لدورها من خلال توحيد صفوفها وبلورة رؤية سياسية وتصور للخروج من أزمة الحرب في اتجاه الحلول الجذرية ممثلة في إعادة هيكلة حقيقية للقوى العسكرية وخروج العسكر من السياسة.

في ذات اتجاه الدكتور الباقر العفيف يمضي الدكتور بكري الجاك أستاذ السياسات العامةو الادارة بجامعة لونغ ايلاند بنيويورك، ويدعو القوى المدنية الراغبة في التحول الديمقراطي الى التوافق على “عملية سياسية لاستعادة مسار ثورة ديسمبر عبر إقامة سلطة مدنية تعمل على إشاعة الحريات وإطلاق عملية شاملة للعدالة الانتقالية والبدء في وضع لبنات توافقية لمشروع تأسيسي لإعادة بناء الدولة السودانية” ويخلص د. بكري في مقالته المنشورة على حسابه الشخصي بموقع فيسبوك إلى ان الحسم العسكري للحرب الدائرة حاليا مستحيل ولن يتحقق لأحد الطرفين إلا بكلفة باهظة تجعله نصرا بطعم الهزيمة، وبالتالي فإن القوى المدنية يجب ان تسعى لإيقاف الحرب والاستعداد لعملية سياسية بقيادة جبهة مدنية يتم تشكيلها على أسس ديمقراطية مع مراعاة الشفافية.

من يمثل قوى التحول المدني الديمقراطي؟

تشكل تحالف “قوى الحرية والتغيير” في فبراير 2019م أثناء حراك الثورة وكان يضم الأحزاب السياسية الرئيسة وأجسام نقابية ونسوية ومنظمات مجمع مدني وحركات مسلحة وتجمع المهنيين الذي تولى قيادة الاحتجاجات ضد نظام البشير منذ بدايتها في ديسمبر 2018م ، هذا التحالف كان ممثلا لقوى الثورة في التفاوض مع المجلس العسكري عقب الإطاحة بالبشير في 11 أبريل 2019م وكان هو الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية المحكومة بالوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها في أغسطس 2019 م.

أثناء الفترة الانتقالية تعرض تحالف “الحرية والتغيير” لانقسامات وصراعات بين مكوناته حول الإصلاحات المطلوبة له في اتجاه توسيعه ومأسسته بشكل ديمقراطي، فضلا عن انتقادات أساسية طالت التحالف من قوى الثورة محورها قلة الكفاءة السياسية والإدارية له وانغلاقه على قاعدة ضيقة تحتكر صنع القرار الأمر الذي انعكس سلبا في أداء الحكومة الانتقالية وفي إدارة قضايا الانتقال المعقدة وتحقيق أهداف الثورة، وبعد انقلاب العسكر على حكومة رئيس الوزراء الانتقالي الدكتور عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021 تعمق الانقسام في التحالف إذ ايدت بعض مكوناته الانقلاب العسكري وعلى رأسها “الجبهة الثورية ” التي انخرطت في تكوين تحالف موازي مدعوم من العسكر باسم “الكتلة الديمقراطية”.

بعد وصول الانقلاب الى طريق مسدود تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية والضغوط الدولية، دخل تحالف الحرية والتغيير في تفاوض جديد مع العسكر انتهى بالتوقيع على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022 والذي نص على استعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي بقيادة حكومة مدنية لا يشارك فيها العسكر، هذا الاتفاق كان هو الآخر محور انقسام في صفوف قوى الثورة إذ عارضه عدد من تنسيقيات “لجان المقاومة” ، وانسحب حزب البعث العربي الاشتراكي(الأصل) من التحالف معترضا على الإطاري ليلحق بالحزب الشيوعي الذي غادر “الحرية والتغيير” قبل الانقلاب، كما انقسم “تجمع المهنيين” قبل الانقلاب الى فصيلين أحدهما معارض “الحرية والتغيير”.

تأسيسا على كل ما سبق، يمكننا ان نخلص إلى ان تحالف “قوى الحرية والتغيير” لم يعد من الناحية الموضوعية ممثلا لقوى التحول المدني الديمقراطي، وانه مجرد فصيل ضمن هذه القوى المتنوعة المتعددة، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة لبناء جبهة مدنية موسعة لقيادة الشعب السوداني في هذه المرحلة المفصلية من تاريخه، فبعد اشتعال الحرب لا بد من تغيير نوعي في المسرح السياسي السوداني تنتج عنه قيادة مؤهلة لتحقيق السلام وبناء البديل الديمقراطي والحفاظ على وحدة البلاد، الأمر الذي يتطلب نوعا من القطيعة مع المنهج السابق لإدارة الانتقال وابرز معالمه الانغلاق وغياب الشفافية والمؤسسية وضعف الارتباط بقوى الثورة الحية في الشارع العريض.

تحديات بناء الجبهة المدنية

الكاتب والمفكر السياسي الأستاذ الحاج وراق يحدد الهدف الاستراتيجي للشعب السوداني في “الانتقال المدني الديمقراطي”، ويشدد على ان تحقيق هذا الهدف يحتاج الى “حامل اجتماعي مؤسسي هو الجبهة المدنية الديمقراطية”، وفي سياق حديثه لنا عن تحديات بناء مثل هذه الجبهة أشار وراق الى ان ” هدف الانقلابيين هو تمزيق القوي المدنية الديمقراطية وقد استخدموا في ذلك مختلف التاكتيكات”.
وفي إشارة إلى تهديدات العناصر الإسلاموية للرموز السياسية والاعلامية التي تدعو لوقف الحرب بالقتل والمحاكمات بتهمة الخيانة العظمى أضاف وراق ” بعد أن أشعلت قوي الردة الحرب في ١٥ أبريل يتضح بجلاء ان هدفها لم يكن فقط الفتنة بين الجيش والدعم السريع، بل أرادت توظيف أجواء الحرب لتصفية الحساب بالدم مع القوي المدنية الديمقراطية، ومن فرط لهفتها على ذلك لم تنتظر الاستواء على مقعد السلطة المطلقة فخرج ممثلوها يتوعدون قيادات القوي الديمقراطية بالثبور والقبور. وهذا سبب إضافي كي تتلاحم القوي الديمقراطية وتنأي عن المعارك الصغيرة و الجانبية”.

على “ناصية الحلم” الديمقراطي

بعد اندلاع الحرب، تداولت الصحف والمواقع الإلكترونية السودانية عددا من مبادرات لمثقفين وسياسيين وقوى مجتمع مدني حول تكوين جبهة شعبية عريضة لتمثيل قوى التحول المدني الديمقراطي وبلورة خطابها السياسي والإعلامي والدبلوماسي فيما يتعلق بأهداف إيقاف الحرب وكيفية بناء السلام والبديل الديمقراطي، وكذلك إدارة الأزمات الإنسانية المترتبة على الحرب والتصدي لخطابات الكراهية والعنصرية التي تدفع في اتجاه توسيع دائرة الحرب، في ختام إفادته لنا حول مدى قابلية هذا الهدف للتحقيق يقول الحاج وراق” تؤكد ويلات الحرب الحالية وعذاباتها فضلا عن أنهار الدموع والدماء لثلاثة عقود تحت الفاشية الاسلاموية حاجة البلاد الى سلطة مدنية ديمقراطية كاملة والى دولة حكم قانون.. فبعد كل هذه التضحيات الجسيمة لا يمكن أن يرضى شعب السودان بدولة فاشية الإسلام السياسي او دولة أمراء الحرب والمليشيات.الديمقراطية هي استحقاق هذه العذابات والتضحيات..

لكن الديمقراطية بحسب وراق لابد لها من حامل مؤسسي. وتحتاج القوي الديمقراطية السودانية _التي تحوز على ارفع الكفاءات من حيث القدرات المهنية والقيادية والاخلاقية _تحتاج ان تفرز قيادات بمستوى قامتها وتضحياتها، قيادات ناضجة فكريا ومعنويا، وبالتالي منفتحة على تيارها الديمقراطي وعلى شعبها دون وسواس الخوف على السيطرة والتحكم ودون الاحساس المرضى بتهديد المواقع، قيادات قادرة على إدارة الاختلاف بديمقراطية واحترام وبالتالي تحويل التنوع الي مصدر ثراء وفاعلية،وليس كلعنة تفضي للتشرذم والتشظي ،قيادات تبذل وتؤسس وتبني، وفي ذات الوقت تتنحي للأجيال الجديدة والوجوه الجديدة كي تجترح بداية جديدة يريدها ويستحقها شعب السودان”.

يتخوف كثير من المراقبين من ان يرتهن مصير السودان السياسي لما تقرره القوى العسكرية المتحاربة او لاي مساومات بين هذه القوى فيما بينها ومع اطراف إقليمية ودولية في غياب مشروع وطني للسلام والتحول الديمقراطي مسنود بتيار مدني منظم ومتجذر يعبر عن المصالح الاستراتيجية للشعب السوداني، فهل تسعى قوى التحول الديمقراطي لامتلاك أدوات التأثير القوي والمباشر في هذا الظرف التاريخي المفصلي وعلى رأس هذه الأدوات بناء جبهة مدنية شعبية لإيقاف الحرب وبناء السلام تحقيق التحول الديمقراطي؟ سؤال ينتظر الإجابة العاجلة.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *