كيف انتزعت الطبقة العاملة السودانية حق التنظيم النقابي؟

تاج السر عثمان
١. تمر ذكرى أول مايو يوم العمال العالمى فى ظروف الحرب اللعينة التي تدخل عامها الثالث وأدت لتدمير البنية التحتية وتدهور أوضاع العاملين المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية، مع عدم صرف المرتبات لشهور وتدمير ٩٠ ٪ من المنشآت الصناعية، وتشريد ونزوح الآلاف العاملين، اضافة لتدمير المنشآت الخدمية من كهرباء وماء الشرب وخدمات الإنترنت والتعليم والصحة.،اضافة لاتجاه حكومة الأمر الواقع كما في منشور المسجل الأخير لمصادرة ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية السودانية ذات التاريخ النضالي العريق.
نتابع بمناسبة أول مايو الإرهاصات والظروف التى أدت إلى انتزاع تنظيم العمال النقابي هيئة شؤون العمال.
أوضحنا في دراسة سابقة تدهور الأوضاع المعيشية التي أدت لاضرابات العاملين في الفترة (1900 1939) وبعدها استمرت إضرابات العاملين خلال فترة الحرب العالمية الثانية التي كانت مقدمة لانتزاع النقابات في العام 1948 ، فقد جاء التكوين أولا، ثم بعد ذلك جاء القانون ليعترف بالتكوين النقابي الذي جاء مستمدا شرعيته من جماهير العاملين بعيدا عن وصاية وتدخل السلطة الاستعمارية كما في اقتراحها صيغة “لجان العمل” التى تفتت وحدة الحركة النقابية التى رفضها العمال ، وطرحوا البديل النقابة، ووحدة وديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية.
٢. الواقع أن الطبقة العاملة السودانية انتزعت حق التنظيم النقابي بنضالها الدؤوب الصبور منذ بداية القرن العشرين كما أوضحنا في الدراسة السابقة ، اضافة الى المؤثرات الخارجية التي أسهمت في تطور وعي الطبقة العاملة السودانية ومنها تطور الحركة الوطنية والتقاليد النضالية للشعب السوداني ، وظهور الفكر والوعي الجديد في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفنية والرياضية وتطور أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي (جمعية الاتحاد السوداني ، جمعية اللواء الأبيض ، مؤتمر الخريجين ، أندية العمال التي بدأت تنشأ في البلاد منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في الخرطوم وعطبرة وبور تسودان .. الخ ، وغير ذلك) .
كان الصديق والزميل عبد الله القطينى (له الرحمة والمغفرة) دائما يسألني من أين جاءت فكرة الإضرابات في بداية القرن العشرين، مثل إضراب عمال مصلحة الغابات 1903م؟ ، في محاولة للاجابة على هذا السؤال ، نشير إلي تأثر العمال السودانيين برصفائهم المصريين والأرمن وغيرهم الذين جاءوا من بلاد فيها تقاليد الإضرابات كوسيلة لانتزاع المطالب والحقوق . وإذا أخذنا مصر كمثال والتي كانت حركة الطبقة العاملة فيها أكثر تطورا في المنطقة العربية ، نجد أن أول إضراب عرفته مصر قام به في مارس 1882 م عمال تفريغ الفحم في بور سعيد للمطالبة بزيادة الأجور ، وقد سجل عام 1899م بداية تحركات عمالية جديدة من أهمها إضراب عمال السجائر الذي نجح في تحقيق مطالب العمال الخاصة بزيادة الأجور ، وبين سنتي 1899 ، 1907 م لم تنقطع الحركة الاضرابية المطلبية (عبد المنعم الغزالي :تاريخ الحركة النقابية المصرية 1899 1952 ، القاهرة 1986) . وفي نهاية القرن التاسع عشر سافر بعض الطلاب المصريين للدراسة في أوروبا ، وهناك تأثر البعض منهم بالأفكار الاشتراكية ومدارسها المختلفة: ماركسية ، فابية ،… الخ ، وعندما اكملوا دراساتهم رجعوا إلي مصر وبشروا بالأفكار الاشتراكية التي تطالب بتحسين أحوال ومستويات العمال والكادحين وتناصر المستضعفين ضد الاستعمار والاضطهاد الرأسمالي وقامت أحزاب اشتراكية في مصر ، ومن هؤلاء المفكرين كان سلامة موسى الذي كان أول من ألف كتابا عن الاشتراكية في مصر عام 1913 ، وعصام الدين حفني ناصف ومصطفى المنصوري وغيرهم . وقد أسهمت تلك الأفكار في تطور وعي الطبقة العاملة (للمزيد من التفاصيل راجع : أمين عز الدين : تاريخ الطبقة العاملة المصرية منذ نشأتها حتى 1919 ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بدون تاريخ).
٣. فترة الحرب العالمية الثانية (1939 1945 م ) :
اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية والتي كان لها آثار بعيدة علي الشعب السوداني ، واشترك فيها السودانيون إلى جانب الحلفاء ضد الفاشية والنازية واضطر الاستعمار البريطاني أن يوسع الجيش السوداني لإرساله إلى شرق إفريقيا وشمالها للاشتراك في المعارك ضد جيوش الفاشية ، كما خلفت الحرب جوا ديمقراطيا نسبيا و خلقت وعيا سياسيا لدى جماهير الشعب السوداني والجنود الذين شاركوا في المعارك في الخارج . كما أن إعلان الأطلنطي الخاص بتقرير المصير دفع مؤتمر الخريجين لرفع مذكرته الشهيرة عام 1942م التي طرحت تقرير المصير ، كما قامت بعض الصحف التي أصبحت أكثر جرأة في نقد المظالم الواقعة علي السودانيين ونقد سياسة المفتشين البريطانيين ، كما تحرر الوضع في معاهد التعليم ، وتم إلغاء عقوبة الجلد وسمح للطلبة بإصدار صحف الحائط وبتكوين اتحادات إقليمية خلال العطلات المدرسية ، كما أدخل نظام للجمعيات التي يديرها الطلبة (للمزيد من التفاصيل: راجع تاج السر عثمان ، خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية ، 1900 1956 ، الشركة العالمية ، 2007).
وخلال فترة الحرب ونتيجة للحصار البحري والجوي على بريطانيا ، اضطرت الإدارة البريطانية لإنشاء العديد من ورش الصيانة لآلات الحرب والمواصلات .
ابتدأ العمال السودانيون يتدربون على الآلات الجديدة ، مما سمح بتطور في مستوي التدريب الفني لديهم ، كما أن نشؤ هذه الصناعات وسع من عدد الطبقة العاملة ، وتزايدت وانضم إلى صفوفها عدد من المزارعين السابقين والنازحين من القري (راجع تاج السر عثمان، مرجع سابق) .
٤. لكن الطبقة العاملة كانت تعاني الأمرين : من اختفاء السلع الضرورية ومن جشع التجار وقسوة السوق السوداء ، و بدأت تحس بكيانها وتنمو عدديا ، كما إنها كانت ساخطة علي الاستغلال البشع والعمل الإضافي غير المدفوع في كثير من الأحوال (عبدالخالق محجوب : لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ، ص 30 31) . هذا إضافة لمعاناة المزارعين الذين كانوا مجبرين على بيع إنتاجهم للحكومة بأسعار منخفضة ومعاناة صغار التجار من غير الذين كرسوا جهودهم للعمل في السوق السوداء ، فالسلع أصبحت شحيحة والاستيراد صعبا ، كما أن التصدير في كثير من الاحيان محتكرا للإدارة البريطانية ، وعلى سبيل المثال تتناول صحيفة السودان الجديد الصادرة بتاريخ : 25 / 2 / 1944 م ميزانية ذلك العام بالنقد والتحليل جاء فيه : (ماذا ينتظر الناس في ميزانية حكومة لاتصل إلى الستة ملايين من الجنيهات ومع ذلك فهي تنفق علي ما يزيد المليونين والربع مرتبات للموظفين وملزمة بدفع 415 ألف جنيه للمعاشات و416 ألف جنية علاوة حرب و600 ألف جنيه لمصروفات قوة دفاع السودان ، وهذه المبلغ تزيد عن 3,5 مليون جنيه مصري ، أي حوالي 60 % من ميزانية البلاد كانت تنفق علي المصالح الاستعمارية في الحرب العالمية الخاصة ببريطانيا وحلفاءها) . من كل ما سبق ، يتضح أن ظروف الحرب نتج عنها ارتفاع في أسعار البضائع والسلع الاستهلاكية في حين أن أجور العمال كانت ثابتة .
يقول د . سعد الدين فوزي (إن الانخفاض الفعلي في مستوى دخل الفرد قد أثر على جميع أقسام وفئات العاملين ، ذلك أن أجورهم لم تتغير منذ عام 1935 ، إذ أن ارتفاع الأسعار لم يواجه إلا بزيادة ضئيلة عبارة عن بدل حرب وبدل غلاء للمعيشة منذ نهاية الحرب ، وقد تضاعف مستوى المعيشة للسودانيين ذي الدخل الأقل من 12 جنيها في 1946 بالمقارنة مع مستواها قبل الحرب ، ولكن تلك الظروف لم تحرك الحكومة لاتخاذ عمل إيجابي كان من شأنه تحسين أحوال معيشة العاملين أو زيادة أجورهم (د . سعد الدين فوزي : الحركة العمالية في السودان ، 1946 1955 م ، جامعة اكسفورد ، بالإنجليزي ، 1957) .
٥. كان من الطبيعي ونتيجة لهذه الظروف القاسية أن تنفجر موجة الإضرابات من قبل العاملين في المصانع المختلفة ، وخلال الفترة : 1941م 1942م وقعت الإضرابات الآتية :
إضراب عمال مصلحة الري بالجزيرة في أكتوبر 1941م .
عمال مصنع الزراير بعطبرة في نوفمبر 1941م.
إضراب عمال المقاولات بكسلا في يناير 1942م .
عمال بحر الغزال في يناير 1942م .
عمال مصلحة الأشغال العمومية بالخرطوم في إبريل 1942م .
عمال بجوبا في نوفمبر 1942م .
عمال الري بالشجرة عام 1942م
عمال مصلحة السكة الحديد بالمقرن بالخرطوم عام 1942م.
كما امتدت الإضرابات احتجاجا علي تدهور المعيشة جنوبا إلى جوبا .
تسربت الاضرابات إلى صفوف الجيش السوداني ، ففي أبريل 1941م أعلنت إحدى فرق قوات دفاع السودان المحاربة بليبيا حالة إضراب في مراكز عملها احتجاجا على إلغاء الإجازات (محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ترجمة الجنيد علي عمر وهنرى رياض 1987، ص 213 214) .
٦. تكوين النقابات :
بنهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية ، اتسعت دائرة الديمقراطية في العالم ونهضت شعوب المستعمرات في حركة عارمة من أجل تقرير المصير ، ونشأ مد ثوري علي نطاق العالم ، وبدأت شعوب العالم تتطلع إلى حياة جديدة ومستقبل أفضل ، وازدادت تصميما ألا تتكرر مأساة الحرب العالمية الثانية من جديد ، وتم إنشاء هيئة الأمم المتحدة عام 1945م ، وكان لهذا المد أثره في السودان حيث ازداد الوعي السياسي وانفرط عقد مؤتمر الخريجين ، وتكونت الأحزاب السياسية ، فقام حزب الأمة الذي كان يدعوا لشعار السودان للسودانيين ، وأحزاب الأشقاء والاتحاديين التي كانت تدعوا لوحدة وادي النيل بمستويات مختلفة ، كما كان للمؤلفات الاشتراكية والماركسية التي دخلت السودان قبل الحرب العالمية ، وانهمر سيلها بعد الحرب ، وسفر بعض الطلاب السودانيين للدراسة في مصر في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي وانتصار الاتحاد السوفيتي وظهور المعسكر الاشتراكي ، كل ذلك كان له الأثر في تلقف نفر من المثقفين والعمال لتلك المؤلفات ، وتكونت أول حلقة للماركسية اللينينية في السودان تحت اسم الحركة السودانية للتحرر الوطني عام 1946م ، وكان تكوينها متزامنا مع تصاعد الحركة الجماهيرية المعادية للاستعمار ، وفي مارس من عام 1946م خرجت أول مظاهرة بعد حوادث 1924م تضامنا مع طلاب مصر ، وارتفعت شعارات سقوط الاستعمار في معظم المدن ، وطرحت الحركة السودانية شعار الجلاء وتقرير المصير في مقابل شعارات وحدة وادي النيل تحت التاج المصري والسودان للسودانيين تحت التاج البريطاني ، كما طرحت شعار الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار البريطاني . كما أسهمت الحركة السودانية مع بقية الأحزاب الوطنية الأخرى في النضال ضد الاستعمار ، نجدها أيضا أسهمت بنشاط مع الأحزاب والقوي الوطنية الأخرى في مساعدة الطبقة العاملة السودانية في بناء منظماتها عام 1947م (هيئة شئون العمال) وأسهمت في بناء وتأسيس الحركة النقابية التي لعبت دورا مهما في استقلال السودان وقدمت الشهداء في سبيل ذلك مثل شهداء الجمعية التشريعية عام 1948م وفيهم العامل قرشي الطيب ورفاقه.
بعد رفض مخطط الخبير البريطاني نيومان لعمل نقابات على الطراز الانجليزي، جاء اضراب 1947م الذي كان من ثماره قانون 1948م ، وتم انتزاع الموافقة علي النقابة حسب إرادة العمال.
كما استمر نضال العاملين والنقابيين ضد قانون 1948م الذي لم ينص علي حق الاضراب ، وتعيين الحاكم العام لمسجل النقابات، وطالب بأن يكون مسجل النقابات من الهيئة القضائية، إضافة الي أنه لم يعترف باتحاد العمال، حتى نجحوا في تعديل المادة (7 ش) ، وكان التعديل يقضي بأن يكون مسجل النقابات من قضاة الدرجة الأولي ، تعينه الهيئة القضائية ، وبعد ذلك تمّ تسجبل النقابات، وكانت نقابة الأطباء أول نقابة يتم تسجيلها.
من ايجابيات قانون 1948م أنه أعطى كل عشرة من العاملين تكوين نقابة، من المفارقات أن الحكومات ما بعد الاستقلال تراجعت عن ذلك !!!، مما يخدم أصحاب العمل من الرأسماليين، ويقيد حق العاملين في التنظيم النقابي والدفاع عن حقوقهم.
٧. كما اشرنا سابقا ، كانت تجربة الحركة النقابية السودانية عميقة في انتزاع ديمقراطية واستقلالية وحرية العمل النقابي، وحق الإضراب ،وكانت سابقة للمواثيق الدولية حول العمل النقابي التي جاءت لتعزيز تجربة الحركة النقابية السودانية مثل:
الاتفاقية رقم (87) لسنة 1948.
الاتفاق رقم (98) لسنة 1949.
الاتفاقية العربية رقم (8) لعام 1977 بشأن الحريات النقابية.
الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أجازتها الأمم المتحدة في ديسمبر 1966.
أكدت هذه الوثائق علي الحريات النقابية وعدم تدخل الدولة فيها وحق التنظيم وتكوين النقابات والاتحادات ، والمفاوضات الجماعية، والحريات والحقوق النقابية ، وحق الإضراب … الخ.
نتيجة لتراكم التجربة السودانية في العمل النقابي ، تم التوصل إلى شعار “لكل حزبه والنقابة للجميع “، باعتبار أن النقابة جبهة واسعة تدافع عن مصالح العاملين غض النظر عن منطلقاتهم الفكرية أو السياسية أو الدينية، فهي ليست منبرا حزبيا أو تابعة للدولة ، وتتخذ قراراتها بأغلبية عضويتها، مع ارتباط القاعدة بالقيادة بممارسة الديمقراطية داخل النقابة بإصدار النشرات وعقد الجمعيات العمومية والندوات والمؤتمرات ومجالس الإدارات … الخ .
٨. وأخيرا في ذكرى أول مايو يوم العمال العالمى التحية للعاملين في نضالهم من اجل وقف الحرب واسترداد الثورة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والامنية والاجتماعية والثقافية، وفي نضالهم من اجل ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية، ورفض تدخل السلطة في النقابات.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة