اخبار السودان

كيف أضاع حمدوك الفرصة الأخيرة؟

إسماعيل عبد الله

 

ما كان لرئيس وزراء الفترة الانتقالية المستقيل ، أن يقبل بإعادة تدويره مباشرة بعد اندلاع الحرب ، فهو يختلف عن سلك وعرمان والتعايشي ونصر الدين ، اختلافه يأتي من كونه كفاءة غير حزبية وخبير أممي صاحب سجل حافل بالإسهامات الواضعة للسياسات الاقتصادية والتنموية ، لبعض بلدان شرق ووسط افريقيا الخارجة لتوها من الحروب وسطوة الحكومات الدكتاتورية ، ورغم تقديمه لاستقالته في وقت كان الناس في أمس الحاجة إليه ، إلّا أن البعض وجد له العذر ، ولو أنه مكث في منفاه لحين انقشاع عجاجة الحرب ، لجئ به رئيساً للسيادة ، اعتماداً على سجله النظيف ، لكن الذين تحلقوا حوله لعبوا به لعبة السياسة ، فاستغلوا انعكاس صورته اللامعة ، في تقديم انفسهم عبر تحالف سياسي عريض اثناء الحرب ، أسموه “تقدم”، لم يصمد التحالف أمام الرياح العاتية للأزمات الوطنية البائنة منذ سنين ، فانفتق الرتق ، وذهب كل حزب بما لديهم فرحين ، فوضع في موضع لا يحسد عليه ، فلم يكن عظيم القوم الموحّد لكلمتهم ، تلك العظمة التي سوف تتنازعها الحكومتان المزمع تكوينهما ، فحمدوك الكاريزما الماضية لن يكون بأي حال من الأحوال ، هو نفس حمدوك الخارج من زلزال الانشقاق ، فالتاريخ لا يمنح الرجل فرصتين ، وربما هو أول حالة تاريخية تحظى بهاتين السانحتين ، وذلك لما يكتنف شعبه العاطفة غير المرشدة ، التي تحب وتكره بإطلاق ، فلا خيار للدكتور حمدوك غير الانزواء ، لو أراد أن يحفظ ما تبقى من ماء الوجه ، لأن الحج إلى بورتسودان وكر الإخوان لن يؤديه الشرفاء المخلصون لأوطانهم ، والذهاب مع المنشقين لن يزيد الشخص إلّا نقصاً في الوزن الوطني ، وانخفاضاً في الأسهم الشعبية.

الحرب لا يوقفها الموظفون المترفون ، لكنهم يقودون الطفرة التنموية بعد ذهاب السلاح واختفاء المظاهر الحربية ، والحرب لا تقبل القسمة على ثلاثة ، بمعنى أن ليس فيها طرف ثالث محايد من أطراف الفعل الثوري ، وما كان لرئيس حكومة الانتقال المنقلب عليها من قبل جنرالات الاخوان ، أن يكون رئيساً لفعالية سياسية أثناء الحرب ، وما دام أنه قد فعل ذلك ، فكان عليه الانخراط في المعمعة ، واعتلاء ظهر أحد الفرسين ، لأن المثالية والطوباوية لا سبيل يجمعها بالبيئات الملوّثة برائحة الدم والدخان والرصاص ، والعقلاء لا يخرجون للشارع عندما يختلط الحابل بالنابل ، إلّا بعد أن يصفو كدر الجو العالقة به أغبرة أقدام المتخاصمين ، فمثل الدكتور حمدوك غاب عنه الرشد السياسي المتجاوز لمسلك الساسة المراهقين ، الذين تسللوا من تحت غربال ديسمبر ، فولجوا الساحة من دون اجتياز اختبار الكفاءة ، فوجد الخبير الأممي نفسه عالقاً بين براثن أيمن فريد وأنياب ياسر عرمان ، وكليهما غارقين مدمنين لصعلكة السياسة السودانية (سياسة أركان النقاش)، وصنفهما هذا لا يصلح لقيادة منظومات الانتقال ، هما وأمثالهما قد أفسدا على الخبير الأممي بيئة العمل المهني التي اعتاد عليها ، فسمماها وأوصلاه لانسداد الأفق ، فليس كل من ربط العنق يمكن أن يكون عرّاباً أو منظراً يعتد برؤيته ، وأزمات الوطن لا يعيها كادر الحزب الذي أسسه الصفويون يميناً ويساراً ، فالحرب الدائرة اليوم نسفت الأرضية الفكرية المرتكزة عليها الطبقة السياسية ، المسيطرة على الميدان السياسي منذ إنزال العلمين ، وأيما شخصية يختارها الناس لخوض غمار الحرب الناعمة (السياسية) ، من الضرورة بمكان أن تتحلى بعدم الانحياز الطبقي.

لقد أضاع الدكتور حمدوك الفرصة الأخيرة ، وفشل في أن يكون قائداً للتحول المدني الموحّد للقوى الديمقراطية المدنية ، وانعطف نحو المركز (خالد وياسر وبكري) ، وأشاح بوجهه عن الهامش (حجر وصندل وتعايشي) ، فوقع في فخ الانحياز ، وآثر الاكتفاء بصفوة المركز المتسامحين مع الاخوان المسلمين ، على ثورة الهامش المستهدفة هدم تمثال دولة السادس والخمسين بيمينها ويسارها ، والعازمة على البناء التأسيسي الجديد الكافر بالآلهة القديمة ، والرافض للطواف حول الكعبة المركزية ، المؤيدة لإراقة دماء الهامش ، فحرب أبريل كشفت عن التلف الذي أصاب الأساس ، الذي صبت عليه خرسانة دولة السادس بعد الخمسين ، وانهيار البنيان دليل على ضعف القاعدة ، وإعادة البناء لا يتبناها المهندس غير المقر بتلف الأساس ، لذا من الضروري أن يقوم بالمهمة الخبير الذي يرى العطب الكامن في أعماق التربة الوطنية ، وهذا الخبير ليس هو رئيس الوزراء الانتقالي السابق ، الذي غلبت عليه النزعة المركزية ، والبلاد فطرتها فدرالية ممتدة من بورتسودان لأم دافوق ، وما أصابها من ترهل كان وما يزال هو (الاختزال) الرؤية المختزلة حول ممارسة السلطة وتوزيع الثروة ، فالمركزيون يريدون ثروة الهامش دون أن يمنحوه السلطة ، تماماً مثلما تفعل مصر بالسودان ، فالجارة الشمالية تريد السودان أرضاً بلا عقول ، كما يريد الرهط الملتف حول “صمود”، الذين هم مجموعة من النساء والرجال “الصامدين” أمام أي فعل حقيقي يؤدي إلى نزع الجذر الفاسد ، يقاتلون في سبيل ذلك حتى لو أودى بهم المصير لأن يحجوا شواطئ بورتسودان ، حيث آخر بذرة من بذور الشجرة القديمة ، التي اجتاحها طوفان الحق.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *