اخبار السودان

كمبوني : الروح السماوي والحب الكبير

خالد فضل

في مثل هذه الأوقات من كل عام , ولحوالي ربع القرن من الزمان , هنا حركة دؤوبة , نشاط وحيوية , بروفات في عدة قاعات , انظر روبرت بحركته الخفيفة , حذقه للإنجليزية , ورطانة عربية ؛ كم ضحكنا على بعضها في زمن ملؤه الضحك ! يبرطم , شوف شوف شوف دي مش كويسة , والعاشر من أكتوبر يغذ الخطو في كل عام , والروح السماوي والحب الكبير _المقطع لمحجوب شريف عليه واسع الرحمة _ في مرثيته الخالدة لعبدالكريم ميرغني يابا مع السلامة _ إنها هنا روح القديس دانيال كمبوني(1830م _ 1881م) , الأب المؤسس لمدارس كمبوني في السودان وفي ذكرى انتقاله من كل عام يتم إحياء ذكراه (10/10), ويا لها من ذكرى محب لإفريقيا والسودان على وجه الخصوص , وشعاره العظيم (إحياء إفريقيا عن طريق الأفارقة) .
ستكون محبة السودان والسودانيين حاضرة دوما , يعبّر عنها أعضاء مجتمع كمبوني من آباء وراهبات وإخوان , القساوسة الذين يتناوبون العمل في أرض السودان والراهبات , جلّهم من غير السودانيين ومع ذلك يحملون من الحب والتفاني والإخلاص ما يستحق الإقتداء , قبل فترة وجيزة من حرب 15أبريل المدمرة رأيت أحد الآباء القساوسة (بالمناسبة الأب والأخ) من الرتب الدينية في الكنيسة الكاثوليكية على الأقل _بحسب معرفتي_ المهم وجدت ذلك الأب مشمرا عن ساعديه , مكفكفا بنطاله وهو يقوم بتنظيف مدرسة كمبوني الإبتدائية /المتوسطة الخرطوم , يحمل القمامة إلى مكب قريب , قلت له سأساعدك في حمل القمامة . ابتسم في وجهي شكرني بأن في مقدوره إنجاز المهمة دون الحاجة إلى مساعدة . يفعل ذلك بتواضع جم وهو المسؤول الأول عن المدرسة . إنها روح كمبوني تسري في وجدانهم وتحتل قلوبهم والإيمان العميق يصدقه العمل . وكل الطرق تقود إلى الله الإله الواحد ؛ كما تختم الصلاة الربانية المشهورة .
الآباء المرحوم , بيبينو والأب نوربيرتو_ حياه الغمام _ حملا الهوية السودانية الرسمية , وسعادتهم بها لا توصف , مثلما يسعد السوداني بالظفر بالهوية الأمريكية أو الكندية , عند الأب الراحل بيبينو ؛ السودان بلده , عاش فيه أطول فترات عمره , خدم فيه بإخلاص ومحبة لا توصف , أحب الناس كل الناس لم يفرق بين عربي وأعجمي , بين مسلم ومسيحي وهندوسي تمنى أن يكون قبره هنا في الأرض التي أحب بجوار قبر قدوته كمبوني , لكنه مات هناك وسط أهله الطليان وفي أرض أجداده كان القبر .إندغم الكمبونيان في حياة الناس , يزورون المرضى , يشيعون الموتى , يعزون في الوفيات , ويرقصون في حفلات الزيجات , يدفعون في (الكشف) الخاص بكل مناسبة تخص العاملين/ات , يساعدون المحتاجين دون أن يحددوا إلى أي دين أو عرق ينتسبون .
ربع القرن من المعايشة الحقيقية بما فيها من أوقات صعبة , وأوقات أقل صعوبة , ومجتمعات الطلبة مزيج متفرد , لا تمييز ولا طبقية ولا انحياز مسبق , الصفة الوحيدة التي يتشاركها الجميع , صفة الابن /الابنة , يستخدمون دائما كلمة (أولادنا وبناتنا) ومن المحرمات التي ترقى لدرجة الجريمة النكراء استخدام خطاب الكراهية على أسس دينية أو عرقية أو ثقافية , إنهم يصنعون في السودان ما عجزت عنه أضخم المؤسسات ! وهم دائما ما ينظرون للمستقبل بتفاؤل _المناضلين_ قبل أيام كنت أتحدث إلى الأب دييغو , كان حديثه مملؤا بالأمل (السودان سيعود إلى السلام بمشيئة الرب) يا سلام ياخي ذكرتنا بالسلام !
ومجتمعات المعلمين /ات والعاملين/ات هجين متماسك , نادرا ما تقع الخلافات المؤذية ولا مجال للخصومات المستعصية , عندما تسري روح كمبوني في الجميع تذوب أكوام الجليد بين المتنافرين , ويسود الإحترام بين العقائد إذ الدين كله لله وإن اختلفت الدروب , الإحتفال بالكريسماس وهداياه تعم الجميع مثلما (سلة) رمضان . والإفطار السنوي المحضور من الجميع , إنها بؤرة وعي بالآخر , ومعرفة صميمة بالإنسان في جوهره , لذا تعبر الصداقات و (الريدة الشديدة) حواجز الأديان التي يصنعها الجهل والأوهام , هنا في كمبوني تتاح المعرفة للجميع فيكتمل بناء العقل , وتتآلف المشاعر فتسمو الروح , وفي الميادين الضاجة بألوان الرياضات فسحة لبناء الأجسام . الثالوث الذهبي (روح وعقل وبدن) وهل الإنسان غير ذلك ! وربع القرن يمضي كلمح البصر , وخلاله شمخت كلية كمبوني الجامعية سامقة إسهاما متزايدا في رفد التعليم العالي بمخرجات رفيعة في عدة تخصصات . وكابوس15 أبريل والدنيا صيام , وتحت القصف أمضينا ساعات طوال , الهم الأكبر على البنيات والوليدات المحبوسين قسرا وإذ لا مجيب لصرخات الإستغاثة , وخرجنا في اليوم التالي , عشنا لنكتب , سلام على ذكرى كمبوني , سلام للزملاء/ات , الآباء والراهبات , الأولاد والبنات . سلام على أرواح من فقدنا بشكل مباشر ( الأستاذ بيتركيانو) وبشكل غير مباشر من آثار الحرب المدمرة (الأساتذة مرتضى وهشام ) وكل فقدائنا ممن لم أعرف , سلام للسودان رغم الجراحات والآلام , سيصبح الصبح , وستكون كمبوني بعطائها الإنساني والمعرفي والوجداني في قلب عمليات إعادة بناء السودان من أول جديد بعون الله . والمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المحبة .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *