اخبار السودان

كل عام والثورة بخير السودانية , اخبار السودان

حيدر بدوي صادق

أشعل الأستاذ محمد محمد طه في ١٨ يناير ١٩٨٥ شرارة انتفاضة ٦ أبريل من نفس العام. ويعلم الأحرار العمالقة في بلدي المُدْمَى، المنكوب، المكلوم الحزين، الصابر أن تلك الانتفاصة نتجت عن ابتسامة الأستاذ محمود الوضيئة، الصامتة، الصاخبة، في المقصلة، وحبل الشنَّاق يوشك أن يلتف حول عنقه الطاهرة!

وبداية الانتفاضة كانت في ندوة بجامعة الخرطوم (في الميدان الغربي) بعد أسبوع من إستشهاد الأستاذ! وفي تلك الندوة تقرر إسقاط نظام مايو بحزم وحسم وعزم! وساهم في تنظيم الندوة الأخ عمر الدقير، الذي كان رئيساً لاتحاد طلبة جامعة الخرطوم، ودكتور عدلان الحردلو، رئيس نقابة أستاذة الجامعة، ودكتور مروان حامد الرشيد، عضو النقابة، وآخرون.

وشارك في الندوة الأستاذ أمين مكي مدني، والدكتور عدلان الحردلو، والأخ عمر الدقير، وآخرون من النقابات والأحزاب والاتحادات والمهنيين الأفراد (غير المنتمين).

إستشهد الأستاذ فداءً للشعب السوداني من الهوس الديني! وشعبنا مازال يسير في درب أبيه الأستاذ محمود محمد طه، سيد شهداء السودان. والدليل هو استشهاد ست النفور، تلك الشابة النبيلة، مع شهداء آخرين من شبابنا البواسل (إبان ثورة ديسمبر وما تلاها). سار هؤلاء الشباب الأبرار في خلف مسير الأستاذ محمود غير هيّابين ولا وجلين. فقد أرسى الأستاذ النموذج الذي يحتذى من بذل النفس من أجل الإسلام والسودان. فاستشهد الشهداء في سبيل إسقاط الهوي الديني، الذي الحياة وشوه إسلام السودانيين السمح! وسبقهم شهداء سبتمبر ٢٠١٣. وسبق هؤلاء الدكتور على فضل، وتبعه شهداء رمضان، وغيرهم كثر.

جاءت “الحرب العبثية” الراهنة كثمرة لفعل شهدائنا حيث هاج الهوس الديني وماج في معاداة تبتغي قتل الثورة. وهيهات! رغم مآسيها فإن هذه الحرب أتت لنجدة، لا لقتل، جذوة الثورة. ذلك لأن أمر الله كله خير! والثورة خير الخيرات في سبيل كرامة السودانيين. وما الحرب إلا مراد الله لنا لكي ننضج.

الحروب تنضج الشعوب. هكذا يقول التاريخ. فهكذا تقول أوربا بعد أن قُتل فيها ما يزيد على ٦٠ مليون نفس في الحرب العالمية الثانية وحدها. في تلك الحرب الطاحنة تم تدمير لندن ومدن أوربية كبيرة أخرى! فهل كانت ستكون أوربا التي نعرفها هي أوروبا اليوم لولا القتل والدمار الذي طالها إبان الحرب العالمية الثانية؟ حتماً لا! ذلك أن الموت والدمار أعاد تشكيل العقل الجمعي فيها بحيث أصبّح الأوربيون لا يرون مناصاً من العيش المشترك، بل الاتحاد!

وهناك حروب أخرى قبل ذلك أنضجت أوربا. فلولا حرب المئة عام من ١٣٣٧ إلى ١٤٥٣ هي أكثر من مئة عام، ولكنها سميت مجازاً بحرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا لما تحطم الإقطاع الظالم فيهما، وفي بقية أوربا من بعد. ولما قامت الثورة الفرنسية. ولما عرف العالم النظام الجمهوري، الذي نسف الحكم الملكي في فرنسا، ونسف النظام الإقطاعي في بريطانيا. وتهيأ بذلك العالم لتحقيق نظام الدولة الحديثة بعد عدة قرون. وبعد حرب المائة عام، قامت حرب الثلاثين عاماً التي شملت معظم أنحاء. وحصل فيها دمار وموت لا يتصوره العقل. بدأت تلك الحرب في العام ١٦١٨ وانتهت في العام ١٦٤٨. وتم عقد اتفاق سلام في وستفاليا وتوقفت الحرب، وتم بموجب الاتفاق تقسيم خارطة أوروبا. إندلعت تلك الحرب المدمرة لأسباب سياسية، ودينية، وتجارية، وبسبب نزاعات حول الحدود، وغير ذلك من أسباب. لم يتعلم الأوربيون ما يكفي من حرب المائة عام، ثم حرب الثلاثين، فكانت الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية. ولولا كل هذه الحروب لما نضجت أوروبا، ولما تقدمت واستعمرت العالم! ولما أصبحت، بعد استعمارها للعالم نماذج متقدمة للنظام الديمقراطي. إذن الحروب تنضج الشعوب والدول مهما طالها الدمار وموت الملايين، ومهما طال أمدها.

وهناك حروب في محيطنا الأفريقي، منها الحرب في رواندا التي مات فيها في العام ١٩٩٤ من التوتسي والهوتو ما يقدر بعد بثمانمائة ألف قتيل في ظرف ثلاثة أشهر فقط (من أبريل ليوليو). وتوقفت الحرب وتم عقد اتفاق سلام ومصالحة عبر آليات العدالة الانتقالية (بعد جز الرؤوس وتقطيع الأجسام بالسواطير)! تلك الحرب اللعينة أنضجت الشعب الرواندي، وأعادت تشكيل عقله الجمعي، الذي أصبح متسامحاً، فبنى دولة متطورة بسرعة هائلة. اليوم. هناك طلبة سودانيون يدرسون في الجامعات الرواندية المحترمة؛ فتأملوا إين جامعة الخرطوم اليوم وقد دمرها الهوس الديني!

إذن “الحرب العبثية” في السودان ليست شراً محضاً كما يرى البعض بسبب الغشاوة التي تحدث أثناء الحروب. بل هي خير لأن أمر الله كله خير، وهو سبحانه وتعالى محض الخير. والخير مطلق كإطلاق الله. والشر محدود، وزائل، مهما طال أمده. وقد أراد الله، القهَّار، الجبَّار، لنا هذه الحرب ليوسع السودان وأهل السودان في مخيالنا. ذلك لكي نعيد تشكيل عقلنا الجمعي بحيث نقيم دولة بنظام دستوري، ديمقراطي، يُحْترَم فيها حق الحياة وحق الحرية (بما فيها حرية التعبير، وحرية العقيدة، وحرية التنظيم، وحرية الصحافة والنشر والبث)؛ دولة تؤسس للحقوق المتساوية، والعدالة، والحق في مقاضاة الدولة إن هي حادت عن احترام الحقوق الدستورية المشار إليها.

ستشتعل الثورة من جديد، وسيعود السودان ليد الثوار، العمالقة، الأحرار، وليد أهله الأبرار بعد أرهقته أيادي المهووسين الأشرار، الفجار!

حتماً سيعود! نعم، سيعود! ولا ريب في ذلك مطلقاً!

وستقوم في السودان دولة العز وكنز الفرح!” هذا أمر لا تخالجني فيه ولا ذرة من شك! الثورة قادمة. بالشعب السوداني، وإلى الشعب السوداني، لمصلحة الشعب السوداني، ولا مراء في ذلك ياشعبي الصادق!

العملاق!!!

ثورتنا العائدة حتماً لن تسعد السودانيين في الحال، فحسب، بل ستسعد الإنسانية جمعاء في الحال وفي المآل. وستخرجها من التيه في المآل. صدقوني!

فهذا ما ظل يقوله الأستاذ، الذي لم تتخلف أي نبؤة من نبوائته بخصوص السودان والعالم حتى اليوم!

أهدي هذا لنص الذي كتبه الجمهوريون، تلاميذ الأستاذ محمود:

“لقد أثبتت … [الثورات] أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم، يجود بالنفس في سبيل العزة والشرف. ولاينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني. فإذا وجد قائداً في مستواه، فإن المعجزات ستجري على يديه، والبطولات ستسعى إليه، خاطبة وده!”

فهل بعد هذا القول من قول؟

هكذا ظل الأستاذ محمود محمد طه يقول، طوال عهده، منذ العام ١٩٤٥ (أي منذ إنشاء الحزب الجمهوري). بل قبل ذلك! ولكنكم قتلتموه بدلاً من أن تُكرِّمُوه بما أكرمكم وأعزكم وزاد عنكم بروحه وماله وبدمه ولحمه وعظمه!

الثورة انطلقت، شعارات ترددها القلوب

الثورةُ، الحرية، الحمراءُ، شمس لا تغيبْ!

والشكر واجب للشهيدات والشهداء ولحبيبنا وأستاذنا محمد الأمين، الفنان، رحمه الله وأجزل له العطاء! والشكر يمتد لأستاذنا الشاعر المحترم هاشم صديق، مد الله في عمره. فقد تغنى هاشم صديق ومحمد الأمين فأزكوا فينا روح الثورة. وهي حية لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. وهم يرددون معنا ل أهازيج الحرية بعد فدونا وفدوها بدمائهم الطاهرة!

هكذا هي الثورة تتضرم تحت ركامِ الحرب، ورمادها، ولن تخبو نارها مطلقاً. لن تنطفئ شعلة الثورة مطلقاً. هكذا تقضي إرادة الله التي تتبدى كأوضح ما تكون في إرادة الشعوب الثائرة!

فطوبى للسودان والسودانيين، وحسن مآب! فقد أظلتهم دولة العز وكنز الفرح!

أيوا سيتي، الولايات المتحدة

٦ أبريل ٢٠٢٤م

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *