أحمد محمود كانم
يقول هنري برجسون إن الحرب «تسلية الزعماء الوحيدة التي يسمحون لأفراد الشعب بالمشاركة فيها».
الكرامة، ليست كلمة تُحفر على لافتة، ولا قصيدة حماسية يلقيها مسؤول في مهرجان راقص.
إذ يتمحور مفهوم الكرامة في كونها “أن يعامل الشخص بتقدير واحترام، وأن تُعطى له مكانته المستحقة كإنسان.
وتشمل الكرامة حق الإنسان في الحياة، والحرية، والأمن، والخصوصية، والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر عليه”.
فالكرامة إذاً هي أن يخرج الرجل من بيته في الصباح، لا يخشى دورية توقفه ليسألونه عن بطاقته وهويته وانتمائه.
الكرامة هي أن تمطي حمارك، سيارتك، دراجتك، بعيرك أو ( كدّاري) من سواكن إلى الجنينة، ومن تروجي إلى إشكيت، لا تخشى إلا الله وشمس الظهيرة على صلعتك!
* أما الحرب الحالية، المسماة لُؤماً واستعباطاً ب(حرب الكرامة)، فلم أجد فيها ما يوحي بحفظ كرامةٍ أو صنع مجدٍ.
بل على الضد… فهي تجسد مفهوم المهانة بعينها… والمهانة أشد قسوة من الذل.
لأن الذل ربما يكون مؤقتًا، لكن المهانة سجن طويل لا ينتهي إلا بفناء الإنسان.
وبالتالي فكرامتنا في وادي والحرب الجارية في وادي آخر تمامًا.
ذلك، لأن الحرب أصبحت في بلادنا سوقاً رائجة يتكسّب منها البعض بكل جرأة في الوقت الذي يفقد فيها الشعب السوداني كل شيء: بيوتهم، كرامتهم، أحبابهم وحتى قدرتهم على الحلم.
حتى بتنا نحن نموت، كي يحيا من لا نعرفهم في قصورهم، ينعمون بالمكيفات والموائد الفاخرة، بينما نبحث نحن عن رغيف خبز لا تلتهمه رصاصة طائشة.
لذلك من غير المستغرب أن يتم التلاعب بالمفردات والمسميات حتى يستطيع أؤلئك الدمويون الاستمرار في تغذية غرائزهم المريضة بدماء الشعب السوداني المكلوم.
*تهشّمت كرامتنا عزيزي القارئ تحت بوت القوات المتحاربة من الطرفين… تبعثرت كرامتنا حين رأينا أختاً تُغتصب أمام أبيها وأخوانها وأبنائها في عقر دار أبيها وعجزنا عن أن نقدم لها ولو اعتذارا يطبطب على جراح كرامتها التي هي نواة كرامتنا!
وتحطمت كرامتنا في منظر ظل يتكرر منذ انطلاقة الطلقة الأولى وحتى اللحظة، تتمثل في اذلال كبار السن أمام بناتهم وأحفادهم وزوجات أبنائهم، ضربا وركلاً وسباً بعبارات تقف الأقلام مستعيذة بالله من شرّ حروفها.
* أما الناجون من الموت، الهاربون إلى دول الجوار ، فما فتئوا يتدفقون زرافات ووُحداناً إلى مكاتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تلك البلدان المجاورة والبعيدة، بعد أن وصلوا إليها بجلدهم فقط…
رجال، نساء وأطفال يقفون في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة، يملأهم أملٌ ضئيل في ورقة حماية أو مساعدة مالية بالكاد تكفي ليوم أو يومين.
وبعيون زائغة يعيدون سؤالاً واحداً : «متى تقف الحرب لنعود إلى بيوتنا، او تتم إعادة توطيننا إلى دولة ثالثة تحترم كرامة الإنسان ؟»
* مآسي أخرى تتحطم عليها مراكب كرامتنا تظهر في تلك الفجائع الكبرى التي يجود علينا بها البحر الأبيض المتوسط بين كل حين وآخر؛ بتقديم لحوم شبابنا الطرية النحيلة كوجبات ثابتة لصغار الأسماك وكبارها…
شباب ضاقت بهم الأرض بسبب حرب(اللئامة) ، فيستقبلهم الموج فاغر الفم والأمعاء، ليبتلعهم واحدًا تلو الآخر… فيغدو البحر مقبرةً مفتوحة لأحلامهم وأسمائهم وأماني أمهاتهم.
فهل هذه كرامتكم ؟!
* إن كرامتنايا قادة بلادي الذي أبتلينا بكم تكمن في إيقاف الحرب… لا في استمراريتها!
تكمن كرامتنا في أن يتوقف إطلاق النار،
في أن يستطيع المحاصرون في الفاشر الحصول على وجبة (عصيدة) دافئة تسد رمقهم، لا أن يموت 223 طفل جوعا خلال شهر واحد فقط أمام ذويهم الذين يتضورون جوعا أيضاً وهم يحاولون تغطية رؤوسهم بأياديهم المرتعشة، علّها تقيهم من الدانات والقاذفات المتدفقة على رؤوسهم صباح مساء، دون أن يتحرك حيال مأساتهم أحد.
كرامتنا أن يعود جميع الفارين إلى بيوتهم وأعمالهم وتختفي معالم الجوع و الكوليرا والنزوح واللجوء… وأن تفتح المدارس أبوابها، وتدور عجلة الأسواق، وتعود الضحكة إلى وجوه أطفالنا.
كرامتنا في أن نعيش أحرارًا، لا أسرى مخيمات النزوح، ولا أرقامًا في قوائم اللاجئين. كرامتنا في أن نزرع ونحصد ونبني، لا أن نحمل السلاح ونحرق ونقتل.
كرامتنا أن نكون شعبًا يحكمه العدل، لا رصاص البنادق.
وكما قال وليم غلادستون: «الحرب مأساة يستعمل فيها الإنسان أفضل ما لديه ليلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه».
فيا أيها السادة الذين تصرون على إحراقنا جميعاً من أجل كرامتنا: تذكّروا أن كرامة الشعب السوداني في إيقاف هذه الحرب اللعينة فوراً … لا في استمراريتها.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة