لقد تحول الفوز على لبنان إلى ما يشبه رسالة شفاء، تقول: إن السودان رغم نزيفه لا يزال قادرا على النهوض والابتسام، حيث صار هذا الانتصار رمزا صغيرا للأمل الكبير الذي يبحث عنه الشعب في كل زاوية، ونقطة ضوء تذكر السودانيين بأن الفرح ممكن..

التغيير: كمال أدريس

وسط أجواء جماهيرية غفيرة ضاقت بها مدرجات وجنبات ملعب جاسم بن حمد بالغرافة، انتزع صقور الجديان بطاقة الترشح للبطولة العربية بعد ريمونتادا رائعة أمام رجال الأرز المنتخب اللبناني الشقيق بالعودة في المباراة والفوز بهدفي كرشوم وجوبا، لكن لم يكن فوز المنتخب السوداني المثير مجرد انتصار رياضي عابر، بل كان لحظة فارقة تسللت من بين ركام الألم لتمنح السودانيين مساحة صغيرة من الفرح الذي غاب طويلاً.

بلغ عدد الجمهور في المباراة أكثر من عشرين ألفا، وفي الخارج كان ينتظر الأكثر الفرحة على أعصابه يتابع المباراة من خلال الشاشات المحيطة بالملعب الأنيق، بعضهم تسلق الجدران وأعمدة الإنارة مخاطرين بأنفسهم علهم يستطيعون رؤية نجومهم في الملعب..

وبين كل الهتافات، ارتفعت الأهزوجة المحببة للسودانيين بالطول بالعرض.. سودانا يهز الأرض» «السوداني إيده على جرحه.. من المعاناة جاب أحلى فرحة» وغيرها من الأهازيج والأصوات العالية والصيحات المجلجلة التي اهتزت لها جنبات الاستاد، فقد حملت الهتافات والأغاني الوطنية معانٍ أعمق من كلماتها، وكأنها ولدت لهذه اللحظة تحديدًا، فهي عبرت عن قدرتنا على الصبر، وعن عزيمته التي تدهش العالم، وعن تلك الروح التي تصنع الفرح رغم الألم. وتجد في كرة القدم، ولو لساعات راحة للقلب المثقل، فمهما طال الليل، فإن فجر السودان قادم على ضفاف النيل.

لم يتوقف السودانيون عن التشجيع نهائياً ولا للحظة واحدة حتى بعد طرد جون مانو حياة الجمهور، وبث في الفريق طاقة جديدة وكذلك عندما تلقينا الهدف الأول زاد الجمهور من حماسه فكأن الملعب وقتها قد اتزن والفريقين أصبحا مكتملي العدد، لينطلق الراينو نحو خصمه بقوته المعتادة ليلقيه صريعاً..

ففي بلد يرزح منذ عامين ونيف تحت وطأة الأحداث الصعبة والظروف القاسية، بدا المشهد مختلفًا هذه المرة، من خلال الضحكات الصافية، والدموع المختلطة بالفخر، مع الأعلام التي ترفرف فوق رؤوس جماهير أنهكتها المتاعب؛ لكنها لم تفقد روحها المتواجدة هناك في ملاعب الرد كاسل والجوهرة الزرقاء وملاعب الليق بأمدرمان وميدان عقرب في الخرطوم بحري، عاشوا السودانيين في قطر روح ملاعب كادقلي والأبيض وملعب كسلا الدولي وملاعب الجنينة والفاشر بكل تفاصيلها من أهازيج وصيحات واحتجاجات وانفعالات إنسانية تعبر عن طيبتنا..

لذلك، خرج الجمهور فمسيرات فرح هادرة جابت أحياء الغرافة وميناء الدوحة القديم، وكان التواجد الأكبر في سوق واقف حيث امتلأت طرقاته، وأزقته عن كاملها..

عاش الناس احتفالات خاصة بلا مواعيد مسبقة، حيث هتفوا، غنوا، تبادلوا الأحضان والابتسامات والتهاني.. وكأنهم وجدوا في كرة القدم نافذة تطل على الحياة التي يريدونها فكانت الفرحة عارمة، تلقائية، وصادقة إلى حد أنها بدت وكأنها جزء من العلاج النفسي الجماعي الذي نحتاجه كشعب سوداني.

وأخيرا.. لقد تحول الفوز على لبنان إلى ما يشبه رسالة شفاء، تقول: إن السودان رغم نزيفه لا يزال قادرا على النهوض والابتسام، حيث صار هذا الانتصار رمزا صغيرا للأمل الكبير الذي يبحث عنه الشعب في كل زاوية، ونقطة ضوء تذكر السودانيين بأن الفرح ممكن. وأنه يأتي أحيانًا من ملعب كرة قدم يحمل أعظم ما يمكن أن يقدمه الإنسان لنفسه.. لحظة يشعر فيها بأنه ما زال حيا، قويا. وقادرا على الفرح.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.