كامل إدريس بين سطوة المليشيات وفوضى الكيزان «2»
حسب الرسول العوض إبراهيم
مرَّ أكثر من شهر على أداء كامل إدريس للقسم رئيسًا للوزراء في سلطة بورسودان، دون أن يتمكن من إعلان تشكيل حكومته. وهو تأخير لم يكن مفاجئًا لمن قرأ الواقع كما هو، وليس كما يُراد له أن يكون. فقد كان واضحًا منذ البداية أن الرجل دخل إلى المشهد وهو يظن أن المسألة محض إدارة تكنوقراطية، تعتمد على الكفاءة والحيادية، لكنه اصطدم بجدار من التوازنات القبلية، والمصالح العسكرية، والأطماع الحزبية، التي تُحكم قبضتها على السلطة في شرق السودان.
في تقرير نُشر مؤخرًا على موقع “الجزيرة نت”، تسرّبت ملامح رؤية إدريس لتشكيل طاقمه الوزاري، حيث قيل إن المعايير الأساسية للاختيار ستكون الكفاءة والمؤهلات والحياد. غير أن ذات التقرير أشار إلى أن الترشيحات في الواقع انطلقت من اعتبارات القرابة والولاء الجهوي، بل وذُكر أن بعض الأسماء نُظر إليها على خلفية علاقاتها بقادة نافذين كالناظر ترك أو حتى عبد الفتاح البرهان، ما ينسف عمليًا خطاب الحياد من جذوره.
اتفاق جوبا: اتفاق انتهى وأطماع لم تنتهِ
من أكبر العقبات التي واجهت إدريس، مسألة “حصص الحركات المسلحة” في الحكومة. فقد أعلنت قيادات من الحركات، وعلى رأسهم جبريل إبراهيم، أن أي تعديل في الوزارات التي آلت إليهم بموجب اتفاق جوبا للسلام غير مقبول إلا بمشاورة تلك الحركات.
ولكن اتفاق جوبا، من الناحية الزمنية والسياسية، قد فقد شرعيته؛ فقد أُقصي أحد أطرافه الأساسيين (تحالف الحرية والتغيير) بانقلاب أكتوبر 2021، كما أن أجل الاتفاق الزمني قارب على نهايته. فضلًا عن أن الاتفاق تضمّن دمج قوات الحركات المسلحة في الجيش، وهو أمر لم يُنفذ.
في الواقع، أصبحت الحركات المسلحة فاعلًا عسكريًا مهمًا في الحرب المستمرة، وتحولت مشاركتها العسكرية إلى ورقة ضغط سياسية، تُستخدم لتثبيت حصتها في السلطة، بل وزيادتها. ومع تدهور الدولة المركزية، شرعت هذه الحركات في عمليات تجنيد وتوسع خارج مناطق نفوذها، مستفيدة من الفوضى التي تعم البلاد.
مليشيات الظل تعود من النوافذ
واحدة من أكثر المفارقات إثارة للقلق، ما نُشر عن أن أحد جرحى العمليات العسكرية التابعين لتنظيم “غاضبون” قد يُمنح منصبًا وزاريًا.
“غاضبون”، بحسب روايات الثورة، كان أحد الأذرع التي اخترقتها منظومة المؤتمر الوطني وظهر بمظهر الفصيل الثوري الراديكالي. ومع اندلاع الحرب، أُعيد تأهيله إعلاميًا كحركة وطنية شبابية، بينما هو في حقيقته، ليس سوى امتداد لمليشيات النظام السابق، دخلت الحرب تحت عباءة “الوطنية” بحثًا عن السلطة والنفوذ.
بالتزامن، خرجت أصوات إعلامية محسوبة على الإسلاميين تُحذّر إدريس من تعيين “العملاء والخونة”، في إشارة إلى التيارات المدنية التي رفضت المشاركة في الحرب. ويبدو أن الرسالة واضحة: السلطة الجديدة يجب أن تعكس “تضحيات” من شاركوا في القتال، لا “خيانة” من ظلوا خارج المشهد الدموي.
بورسودان: سلطة هجينة بلا شرعية
ما يتشكل الآن في بورسودان ليس حكومة، بل توازن قلق بين قوى السلاح والمال والجهة، دون أي أفق سياسي حقيقي. مليشيات تتناسل، وفلول تعود، وحركات تسعى للمكاسب على ظهر بندقيتها، بينما يظل الشعب غارقًا في الأزمات: من الجوع والنزوح، إلى انعدام الخدمات الأساسية.
وفي خضم ذلك، يبدو كامل إدريس الذي جاء يحمل خطابًا مدنيًا تكنوقراطيًا مجرد واجهة في سلطة هجينة، تدار فعليًا من قبل التحالف العسكري القبلي المسيطر. وإن لم يكن قادرًا على فرض رؤية مستقلة أو إحداث اختراق في هذا المشهد المعقد، فإن السؤال الأهم لم يعد: “متى يُعلن حكومته؟”، بل: “هل هو فعلاً من يشكّلها؟”.
حكومة المساومات،،، كامل إدريس بين سطوة المليشيات وفوضى الكيزان
المصدر: صحيفة التغيير