اخبار السودان

كامل إدريس: الدمية التي لم تتحرك بعد

دكتور الوليد آدم مادبو

في لحظة سياسية مفصلية يواجه فيها السودان حربًا طاحنة وانهيارًا مؤسسيًا غير مسبوق، قرر الفريق أول عبد الفتاح البرهان تعيين رئيس وزراء من طرف واحد، في خطوة وُصفت بأنها محاولة مكشوفة لإضفاء طابع مدني على سلطة عسكرية منبوذة داخليًا ومأزومة خارجيًا. لكن الرد لم يأتِ هذه المرة من شارع غاضب أو حراك ثوري، بل من داخل أروقة مؤسسة تقليدية مثل مجلس اللوردات البريطاني، حين وصف اللورد جيرمي، أحد أعضائه البارزين، رئيس الوزراء المعيَّن بأنه “دمية”.

لم يكن ذلك مجرد تعبير عابر، بل تشخيصًا رمزيًا كثيفًا لسياق معقد تتشابك فيه الإرادة المفقودة، والشرعية المنعدمة، والحقيقة السياسية المراوغة.

حين نُعت الرئيس الجديد بهذا التوصيف، لم يكن اللورد البريطاني يمارس تهكمًا دبلوماسيًا أو يسعى للتأثير في موازين القوى، بل كان يُعرّي السياق الذي أُنتج فيه هذا التعيين: رئيس وزراء بلا قاعدة شعبية، لم يُنتخب ولم يُطرح اسمه في أي مشاورات سياسية، لم يكن نتاج تسوية وطنية أو مبادرة جامعة، بل جاء بقرار فوقي من قائد عسكري تتآكل شرعيته بسرعة في الداخل والخارج. والأسوأ من ذلك، أن هذا “الرئيس” لا يحمل أي برنامج واضح أو خلفية تؤهله لقيادة بلد يعيش أزمات مركبة: حرب أهلية، نزوح واسع، اقتصاد منهار، ومؤسسات تتآكل كل يوم.

وصف “الدمية” هنا لا يُفهم كشتيمة شخصية، بل كإشارة دقيقة إلى علاقة التبعية السياسية بين الرجل والجنرال البرهان، ومن خلفه تحالف إسلاموي عسكري يسعى مجددًا إلى تجميل وجه الاستبداد بطلاء مدني هش.

هذا السياق المهتز لم يثر قلق لندن وحدها، بل سلّط الضوء أيضًا على المفارقة التي فجّرها موقف الاتحاد الأفريقي، الذي سارع إلى الترحيب بالحكومة الجديدة. وهو ترحيب أثار استغراب اللورد جيرمي، وطرح أسئلة أخلاقية وسياسية حول مؤسسة يُفترض بها تمثيل مصالح الشعوب، فإذا بها تُبارك حكومة وُلدت من رحم مرسوم عسكري لا من إرادة وطنية.

كيف يمكن للاتحاد الأفريقي أن يغمض عينيه عن سجل الانتهاكات، ويُبدي الحفاوة بحكومة لم تمثّل أحدًا سوى معسكر السلطة المفروضة؟ مثل هذا الموقف، في نظر مراقبين كثر، لا يعكس فقط ضعفًا في استقلالية القرار الإفريقي، بل يكشف انحيازًا بنيويًا مزمنًا نحو قوى الأمر الواقع، حتى وإن ارتدت قناع المدنية الزائف.

أما الرد الرسمي من الحكومة البريطانية، فقد جاء على لسان اللورد كولينز، وكيل وزارة الخارجية لشؤون إفريقيا، الذي صاغ موقفًا دبلوماسيًا واضحًا دون ضجيج: لا اعتراف بأي حكومة تُنتجها أطراف النزاع الحالي. الأولوية هي لوقف القتال، وتوصيل المساعدات، ثم استئناف عملية سياسية حقيقية تفضي إلى حكومة مدنية ذات تمثيل شعبي. هذا الخطاب المتزن لا يعكس فقط موقفًا تقليديًا للحكومة البريطانية، بل يشي بوعي متزايد في الغرب بمخاطر شرعنة سلطات مفروضة، ومحاولات تمرير حكومات رمزية تُستخدم كأدوات لتمديد عمر النظم العسكرية المنهارة.

والرسالة هنا واضحة: الشرعية لا تُمنح بالإعلان، بل تُكتسب من الناس، عبر المسار السياسي لا عبر المراسيم.

في المحصلة، فإن ما جرى داخل مجلس اللوردات لا يمكن قراءته كمجرد تعليق بروتوكولي، بل كـ”حجب ثقة” مبكر تجاه شخصية سياسية لم تبدأ بعد مهامها، لكنها فشلت حتى في إقناع الخارج بأنها تملك ما يكفي من الاستقلالية لتُحسب كقيادة وطنية. أن يُطلق لقب “الدمية” على رئيس وزراء في أول أيامه ليس فقط سقوطًا أخلاقيًا وسياسيًا، بل مؤشر على أزمة أكبر تتعلق بشرعية المشروع السياسي الذي ينتمي إليه. هو تذكير صارخ بأن ما يُصاغ من فوهة البندقية، ولو تلحّف برداء مدني، سيظل في نظر الداخل والخارج جزءًا من بنية الأزمة، لا من أدوات الحل.

لقد بات واضحًا أن ما يبحث عنه الشارع السوداني، بل وما يطالب به العالم أكثر فأكثر، ليس مجرد حكومة جديدة أو أسماء مدنية تُدبّج خطاباتها في بورتسودان، بل شرعية جديدة: شرعية تُستمد من معاناة الناس، وتُبنى على أساس رؤية وطنية جامعة، لا على موازين قوى السلاح، ولا على ترضيات نخب ما بعد الثورة.

ختاماً، ما نراه في بورتسودان ليس نظامًا سياسيًا، بل عرض مسرحي سيئ الإخراج، تُعاد فيه ذات المشاهد: الجنرال المتجهم، الواجهة المدنية البائسة، والخطاب العشوائي الممجوج. لكنّ الجمهور هذه المرة ليس غافلًا، ولا صامتًا. فحين يسبق البريطانيون السودانيين في تسمية هذا “الرئيس” بلقب الدمية، فهذا ليس هجاءً، بل نعش مبكر لما يُراد به أن يكون حكومة. وربما، حين يُكتب تاريخ هذه اللحظة، سيُقال: لقد أخرج الجنرال من قبعته دمية، فصفّق له المطبلون، وضحك العالم … لكن الشعب، كعادته، لم يضحك!

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *