قول عسكرية.. قول جاهزية! السودانية , اخبار السودان
بثينة تروس
لا يخفى على أحد بعد مرور عام من الحرب أن مسرح الفوضى، وانتشار السلاح، واستباحة البلاد، ونهب مواردها، قد اكتمل إعداده، بالفتن لختام انشطار الوطن إلى غير أمان. وخاب فأل الفلول حين نجح شباب وشيوخ قبيلة البني عامر في إخماد نيران مخططهم، لانشطار مكونات الشرق. ولو قدر للذاهبين بمعركتهم شمالاً من قوات الجنجويد فليستعدوا، لأنهم لن يجدوا غير التهميش المدهش وتغبيش الوعي، فلقد سبقتكم عليها أيادي الحركة الإسلامية لمدة ثلاثين عاماً حسوم. وسيجدون نفس علة ما يشتكون من إخفاقات دولة 56. كما لم يستطع الجيش بمليشياته الجهادية من تحرير الجزيرة وتلبية استغاثة أهلها العزل، إذ لا خير في المعتدي ولا خير في الذي فرّ من المعركة.
بالأمس القريب وحينما كانت الشوارع تهتف (لا إله إلا الله، الكيزان أعداء الله) و (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل) كتب الكيزان، أعداء التغيير، على الجدران: (حميدتي لحماية الإسلام. ألم يكونوا إخوة متحابين نفذوا سوياً مجزرة القيادة العامة في يونيو 2019؟ أي ذاكرة تلك التي تنسي منظر قوات الجيش، والدعم السريع، وكتائب الظل الإسلاموية، واللجنة الأمنية، وهم يتحلقون بوحشية حول الشباب المعتصمين أمام القيادة العامة، وهم يفترشون الأرض وأيديهم فوق رؤوسهم، وآخرون مقيدون لا يكادون يقوون على المشي، وقوى الشر تصرخ فيهم بهستيريا (قول عسكرية) فيما يشبه الاستجابة على مطالب المدنية، وهتافات (مدنيااااو) ويواصلون ضربهم بأعقاب البنادق وبالعصي، بوحشية غاشمة ويتصايحون بحقد أعمى (مدنية ولا عسكرية؟) والشباب والكنداكات ما بين الدم وإزهاق الأرواح يرددون (لا. عسكرية، عسكرية) ثم يصورونهم بفيديوهات يتبارون في تسجيلها وبثها، (وحدس ما حدث.
نفس المشهد يتكرر في أحد فيديوهات إعلام الحرب الآن، قوات الدعم السريع يتحلقون حول مجموعة من أسرى مليشيات كتائب الجيش بعد معركة الجيلي، في نفس حالة هستيريا جنون الاعتصام (قول جاهزية، سرعة، حسم) مستعرضين قوتهم وسيطرتهم. ثم لا تبعد بعيدا عن ذلك المشهد، فيطالعك إعلام الطرف الآخر، مشهد لأفراد من منتسبي الجيش، وهم يصوبون دوشكاتهم وأسلحتهم، على رؤوس أسراهم من الدعم السريع، يصرخون مكبرين ومهللين لانتصارهم في المعركة نفسها على المتمردين. لكن المُختلف عن المشهد الأول أن جل رسالتهم موجهة للقوى المدنية، أي باختصار الطرف الذي لا يحمل سلاحاً في المعركة، من الواضح أنها ليست بمعركة (الكرامة) للوطن، وإنما تقودهم حفائظ نفوسهم والضغائن من ضياع سلطتهم، وهم دائما ما يهددون بأنهم عائدون، وسوف ينتصرون.
ولم يخفوا نيتهم بأن أول مهامهم بعد انتصارهم إعادة قوانين النظام العام سيرتها الأولى، وضبط اللبس، والسلوك، وسوف ينظمون الشارع السوداني، وتأديبهم بالضرب (والمتق) وحسم الفوضى وإقامة الحدود من حد السرقة وقطع الأيدي، والرجم. وبالطبع عجزوا عن شرح أسباب فشل حكومتهم عن تطبيق هذه الحدود على الفاسدين (وجلهم من المنتسبين إليهم) طوال ثلاثة عقود. أنهم أقوام لا تعلمهم التجارب، ولا يورثهم قبح الحروب حكمتها، فبدلا من تطمين المواطن بأنهم سوف يعمرون الأرض، ويستخلفون الدمار بالعمار، والموت بالحياة الرخية، ويعيدون المستشفيات، والمدارس والمدن سيرتها الأولى، فها هم يتوعدونهم بالانتقام والويل والثبور والمزيد من الموت وكأن ويلات الحرب لا تكفيهم انتقاماً من الشعب الذي ثار عليهم واقتلع نظامهم.
الشعب السوداني بلا جدال ضحية هذه الحرب التي لا تخضع لقوانين الحروب، إذ تظل الانتهاكات والمجازر البشعة مستمرة والتطور الوحيد يقع في أدواتها ومنهجيتها القمعية بعد أن استبيحت المدن والقرى، واحتلت بيوت المواطنين، ونهبت من طرفي الحرب! وقصفت منازلهم بلا رحمة، فزهقت الأنفس وضاع حصاد السنين، وتدمرت المنظومة الصحية والتعليمية المتهاويتان أصلا! وحصاد عام من الاحتراب كان ما يزيد عن ثلاثة عشر ألف قتيل، وما يفوق العشرين مليوناً يواجهون الموت بالمجاعة، وجل النازحين من الشيوخ، والأطفال، والنساء والفتيات اللائي واجهن العنف الجنسي والقهر والذل.
أما الحرب الإعلامية بين طرفي القتال، فلقد بلغت حدا من الاحترافية، أتقنوا فيها صناعة الفتن التي أعجز المدنيون صدها، فتصدعوا وانقسموا بأكثر مما كانوا عليه من تصدع وانقسام، حتى إنهم عجزوا عن أن يوحدوا شتاتهم في مظلة إعلامية موحدة لجميع السودانيين جميعهم الذين يؤمنون بوقف الحرب بلا تمايز بين انتماءاتهم السياسية أو العقائدية، يستطيعون من خلالها كسب المجتمع الدولي لصفهم، ليقف معهم وهم يسعون لاستعادة الوطن، وينشرون من خلالها رسالة السلام وضرورته الملحة، ويرفعون مستوى الوعي بكيفية وقف الحرب، والتخطيط لما بعدها، وإحياء مطالب التغيير وفاء لجيل الشباب الذي آمن بالسلمية لتحقيق العدالة، واستشهد عدد كبير منه فداء لها. الشاهد في الأمر أن أعتى وأشرس الحروب انتهت بوضع السلاح والانحياز للتفاوض والسلم ولحفظ حقوق المواطن، وحفظ كيان الأوطان، وتبقى الحقيقة الثابتة أنه لا يحل مشكلة السودان إلا السودانيين أنفسهم.
المصدر: صحيفة التغيير