قوة القانون في التنازع بالقوة السودانية , اخبار السودان
عمر العمر
بعد عشرات الكتب ،الكراسات والمقالات ذات القيمة المرجعية في تاريخنا السياسي المعاصر عاد الأستاذ فيصل عبد الرحمن علي طه ليخرج لنا سفرا بحثياً قيّماً جاوز عمره نصف القرن .ذلك هو أطروحته الأكاديمية لنيل الدكتوراه في القانون الدولي في جامعة كيمبريدج. مع ذلك يشكل الكتاب مرجعية لاغنىً عنها للباحث في تاريخ ،حاضر ومستقبل إحدى قضايانا الوطنية الساخنة. تلك هي مسألة الحدود مع دول الجوار، خاصة الخطوط الشرقية المشتركة مع إثيوبيا. فهنا تبرز قصة مثلث الفشقة. في الكتاب الصادر في اللغة الإنجليزية (نزاع الحدود السوداني الإثيوبي) لا يستعرض البروفيسور فيصل تاريخ السودان المعاصر منذ العام ١٨٢١ بل يعالج ذلك السرد التاريخي بمبضع الحقوقي الماهر .تلك المعالجة تمنح الكتاب قوامه 369 صفحة من القطع الكبير فردانيته المتميزة.
*****
حتى لا يصدر حديثي في شأن الكتاب عن ألفة ومحبة فإني أستعين بما كتب الأستاذ الموقر صالح فرح مستشار الراحل المقيم الشيخ زايد بن سلطان في حق دكتور فيصل .العم صالح زاده الله سنيناً ومنعة قال في كتابه النادر ( خواطر) الصادرة طبعته الثانية والأخيرة في العام ٢٠١٥ في شأن فيصل)رجل قانون ضليع استفاد من علمه القانوني واطلاعه الواسع وتجاربه في التأليف ليقدم مرافعة من طراز رفيع.) مع أن ذلك التقريظ صدر في حق كتاب سابق للمؤلف إلا أنه يطابق تماما السفر الحديث.للبروفيسور فيصل أكثر من كتاب عن مسألة الحدود. من ذلك(القانون الدولي و منازعات الحدود)١٩٩٩ و(تسوية النزاع الحدودي بين السودان و إثيوبيا)٢٠٢٢.لكن الإصدار الجديد يشكل أهم أمهات القضية.
*****
هذا السفر يسلط الضوء على بُعْدٍ مهملٍ في السرد التاريخي المتداول.فبينما يتناول المؤرخون والدارسون التاريخ من موازين قانون القوة يُشرّح استاذنا الصراع بمنطق قوة القانون.فالثورة المهدية مثلاشكّلت وضعا مبهما لدى جميع الأطراف المعنية من حيث تكييف وضع السودان قانونيا. رؤى الأطراف تباينت بين اعتباره اقليما تركيا تحت سيطرة قوة عسكرية متمردة، دولة مستقلة و أرض لا سيادة عليها! هذا الغموض فتح الأفق أمام تنازع بريطاني ، فرنسي ،إيطالي، ألماني تركي بلجيكي على حوض وادي النيل بأكمله.اللبس القانوني اكتنف كذلك الحقوق المصرية البريطانية تجاه حملة الفتح ثم السيادة إبان إدارة الحكم الثنائي في السودان بعد الاسترداد.
*****
التازع الحدودي ليس استثناءا سودانيا إثيوبيا بل أزمة أفريقية غالبة ظلت تهدد وحدة وسيادة الدول كما تؤرّق علاقات الجوار.فالحدود القُطرية في القارة تولت ترسيمها القوى الاستعمارية متجاهلة عددا من الحقائق لعل أبرزها وحدة القبائل الساكنة على خطوط التماس .رغم ذلك لم تجد حكومات دول القارة بُدّاً في العام ١٩٦٤من ارتضاء الاعتراف بالحدود كما ورثتها عشية استقلالها.لكن ذلك التبني الجماعي لم يُسكن التنازع على حدود الأقطار بل التهب على عديد من الخطوط المشتركة.فالواقع على الأرض يبقى كما يوضح المؤلف أكثر تأثيرا من الاتفاقات المنبثق ذلك الواقع عنها.
*****
مؤرخنا الحقوقي يؤصّل محاولات تسوية النزاع السوداني الإثيوبي إلى مفاوضات بين الإمبراطور الإثيوبي منليك والمندوب البريطاني في أديس أبابا هارينغتون منتصف إبريل ١٨٩٩.تحديثات عدة طرأت على ذلك الاتفاق في أزمان متباعدة و بين أطراف متباينة ،تداخلت فيها إيطاليا واتسعت لجهة الحدود السودانية الإريترية حتى التوقيع عليها منتصف مايو ١٩٠٢. بعد ذلك برزت قضية فنية شائكة تتمثل في أهمية الفرز بين مصطلحي ترسيم الحدود وتعيينها على الأرض.الاتفاق اشتمل كذلك على مسائل حيوية ترتبط بحياة الناس .من ذلك توفير الصحة ،التعليم ، الجمارك وتأمين الطرق بالإضافة إلى الإدارة المحلية والإحصاء السكاني.
*****
مسلسل النزاع السوداني الإثيوبي لم يتوقف .كذلك تواصلت محاولات التسوية مع انفجارات نوبات التوتر في أشكال أبعد من النزاع على الأرض .إذانطوى بعضها على أبعاد سياسة بينها تحريض عناصر معارضة للأنظمة الحاكمة في الخرطوم وأديس أبابا. ربما كانت المذكرة المتبادلة بين الجانبين في العام ١٩٧٢ أفضل المحاولات للخروج بالحدود من دائرة التنازع إلى رحاب التعاون .مثلث الفشقة ظل يشكل عظم النزاع الثنائي استنادا إلى ثقله الاقتصادي مع ان اثيوبيا لم تزعم ملكيتها عليه!
*****
الكتاب يتميز بالعديد من الوثائق التاريخية والخرائط الجغرافية مما أغنى ثرائه المرجعي. كذلك يوفر الكتاب حقلا خصبا في اللغة الإنجليزية يعين الراغبين في زيادة غلتهم من مفردات الأدب السياسي.تلك كانت وصية البروفيسور لي مهاذرا بغية تحريضي على قراءة النسخة المهداة له الامتنان لكني وجدتها نصيحة ينبغي أخذها على محمل الجدية ،بل تستوجب التعميم.
المصدر: صحيفة التغيير