منتدى الإعلام السوداني

فتح الرحمن حمودة

أم كدادة، 4 أغسطس 2025 «التغيير» منذ اندلاع الحرب في السودان التي دخلت عامها الثالث، لا تزال آلاف القصص الإنسانية وقصص النجاة تتوالى من المناطق التي طالتها العمليات العسكرية، وشهدت انتهاكات جسيمة، سواء من قبل القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع، وكانت دارفور الأكثر تضررا.

في هذا السياق، شهدت مدينة أم كدادة، الواقعة في ولاية شمال دارفور (187 كلم جنوب شرقي الفاشر)، انتهاكات مروعة ارتكبتها قوات الدعم السريع التي اجتاحت المنطقة في أبريل 2025 حسب رواية الشاب العشريني “أ.ج”، الذي روى لـ«التغيير» قصة نجاته مع آلاف السكان.

يبدأ “أ.ج” روايته قائلا: حين اجتاحت قوات الدعم السريع مدينة أم كدادة، لم تعد الأرض تتسع لسكانها.. انكمشت على نفسي داخل أحد المنازل في الحي الذي أقطن به لساعات طويلة، كنت أراقب من بين الشقوق الضيقة، وأسمع أصوات الأسلحة الثقيلة وكأن الموت يقترب مني.

كان الشاب يشاهد مدنيين يتساقطون، وأسواق تنهب، وقلوب تنتزع من صدورها رعبا، وكل ذلك تراقص أمام عينيه خلال الساعات الأولى للهجوم، كانت اللحظات كابوسا لا ينتهي، إذ إن كل صوت وحركة كانت تزيد خفقان قلبه المتسارع، حتى جعله يتساءل: هل هذه هي النهاية؟

ويواصل الشاب سرد شهادته، مشيرا إلى أنه في صباح اليوم، وكان الخميس، حلت الفاجعة الكبرى، إذ هاجمت القوات السكان دون رحمة، كما لو أنهم وحوش خرجت من أعماق الكوابيس على حد تعبيره. ويضيف: “كثيرون من أهلنا حملوا أسلحتهم البدائية فقط لحماية ماشيتهم ومنازلهم”.

ويؤكد أن (معركة الخميس) لم تكن معركة عادية، بل مجزرة حقيقية أودت بحياة أكثر من 300 شخص، أغلبهم من رفاقه و”أفضل شباب المنطقة” على حد تعبيره.

وكانت قوات الدعم السريع أعلنت سيطرتها على منطقة أم كدادة وقالت في بيان على منصة (تلغرام)، إنها حققت نصرا كبيرا بتحرير اللواء 24 بمحلية أم كدادة التابع للفرقة السادسة مشاة من قبضة الجيش السوداني والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح التي تقاتل إلى جانبه.

إلا أن موقع الجزيرة نت نقل عن مصادر ميدانية أن المقاومة الشعبية والمستنفرين (قوات شعبية مساندة) والحراك المجتمعي تمكنوا من صد هجوم مفاجئ شنّته قوات الدعم السريع على رئاسة محلية أم كدادة، مما أسفر عن تكبيد المهاجمين خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ولكن جميع المصادر اتفقت على أن قتالا عنيفا دار في المدينة.

قتل دون تمييز

وبغروب شمس ذلك اليوم، يقول “أ.ج” أن تفكير السكان انحصر في محاولة النجاة، إلى أن وصلهم نبأ مقتل الطبيب الوحيد في المنطقة على يد قوات الدعم السريع التي واصلت القتل دون تمييز، حيث طال الأطفال والشيوخ والنساء. فلم يعد أمامهم أي خيار سوى النزوح.

ويضيف خرج الجميع حفاة، لا يحملون شيئا سوى الخوف، إذ كانوا أربعة شباب تسللوا عبر الشوارع المظلمة ووفقا لشهادته، فإن كل صوت في الطريق كان يثير فيهم الرعب، لأن انكشاف أمرهم في تلك اللحظة كان يعني الإعدام.

ويوضح أنهم سلكوا طريقا خلفيا لا يعرفه سوى أبناء المنطقة، حتى وصلوا إلى (جبل مندول)، وهو الجبل الوحيد الذي لم تصل إليه قوات الدعم السريع بعد، وعند وصولهم، تنفسوا الصعداء، غير أن الطريق كان لا يزال طويلا حتى يصلوا إلى (أم سدرة) التي تبعد نحو 75 كيلومترا.

ويتابع: “الطرقات كانت مليئة بالأطفال وكبار السن، بعضهم جالس على الأرض منهكا، وآخرون تائهين لا يعرفون وجهتهم، وغيرهم يبكون بصمت أو بصوت عالٍ… أم كدادة تنزف”.

في الأثناء، كان النزوح جاريا على قدم وساق، قافلة تلو الأخرى، وروح تهرب تلو روح، في محاولة للإفلات من قبضة الموت. ويشير إلى أن الفارين لم يكونوا يعلمون إلى أين يتجهون، لكنهم كانوا مدفوعين بغريزة البقاء.

روائح الحريق

ويستطرد قائلا: مررنا بمنطقة المشروع، ثم إلى منطقة زرافة الواقعة شرق أم كدادة، وهناك لم نجد سوى الرماد المتناثر، ورائحة الحريق، والعطش الذي جفف حلوقنا. ويضيف أنهم ساروا يوما كاملا على الأقدام، دون أن يشربوا قطرة ماء واحدة.

وعند وصولهم إلى منطقة (أم سدرة)، كانت تلك المرة الأولى التي شعروا فيها أنهم ربما نجوا من الموت. غير أنهم لم يكونوا وحدهم، إذ كانت آلاف القوافل من النازحين تتوافد أيضا في رحلة البحث عن مكان آمن يلوذون به من جحيم الحرب.

نجونا لكننا لم نعد كما كنا. تركنا خلفنا أمواتا، ومنازل محترقة، وأحلاما لم تكتمل

ويؤكد أن الوضع في (أم سدرة) كان صعبا للغاية، إذ لم تكن المنطقة مهيأة لاستقبال هذا العدد الضخم من النازحين. ويشير إلى أن الموارد كانت شحيحة، والمأوى نادرا، حيث تجاوز عدد النازحين 27 ألف نازح ونازحة في فترة وجيزة.

وبسبب سوء الأوضاع الإنسانية هناك، يقول الشاب، أنه رأى نساء يبكين على أطفالهن، ومرضى بلا دواء، وآخرين يفترشون الأرض دون غطاء، وأسرا كاملة تعيش تحت أشعة الشمس بلا سقف يحميهم. ويؤكد أن كل وجه كان يحكي قصة مأساة.

ويختم “أ.ج” سرده قائلا: نعم، نجونا لكننا لم نعد كما كنا. تركنا خلفنا أمواتا، ومنازل محترقة، وأحلاما لم تكتمل. كل ما نعرفه أصبح مجرد ذكرى مؤلمة، ولم نخرج لأننا أردنا الرحيل، بل لأن الموت كان أقرب إلينا من الحياة.

منتدى الإعلام السوداني

ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من أعداد صحيفة «التغيير» في إطار رصد وتتبع تداعيات الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع وروايتها بلسان الضحايا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.