✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

في الثالث من يونيو 2025، شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن اجتماعاً دبلوماسياً رفيع المستوى جمع نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لانداو وكبير مستشاري شؤون أفريقيا مسعد بولس، إلى جانب سفراء المجموعة الرباعية الرئيسيين سفير الإمارات العربية المتحدة، وسفيرة المملكة العربية السعودية، وسفير مصر. هذا اللقاء، الذي عُقد عقب إعلان الولايات المتحدة عزمها فرض عقوبات على الحكومة السودانية (ممثلة بالجيش) بسبب استخدامها  لأسلحة كيميائية في العام الماضي، يمثل محاولة حثيثة من واشنطن لإعادة تشكيل المسار الدبلوماسي المتعثر لأزمة السودان.
إلا أن قراءة متأنية لهذا الاجتماع وارتداداته تكشف عن طبقات متعددة من التحديات، تمتد من التباينات المتجذرة بين الفاعلين الإقليميين إلى التعقيدات المتزايدة على الأرض ومصداقية الأطراف المتحاربة، لتثير تساؤلات جوهرية حول الآفاق الحقيقية لأي حل مستقبلي ومدى إمكانية تجاوز أخطاء الماضي.

تؤكد الرؤية الأمريكية، التي عبر عنها نائب الوزير لانداو بوضوح، أن لا حل عسكرياً للصراع في السودان. هذه القناعة ليست مجرد مبدأ نظري، بل هي حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تكثيف الضغط على الأطراف المتحاربة. فالمأزق الإنساني الكارثي، الذي تجاوز عتبة العشرة ملايين نازح ولاجئ وتهدد فيه المجاعة حياة الملايين في ظل تدهور مريع للخدمات الأساسية، إلى جانب التداعيات الأمنية الإقليمية المتمثلة في خطر انهيار الدولة السودانية وتنامي الاضطرابات عبر الحدود، كلها عوامل تدفع واشنطن لتسريع وتيرة الجهود الدبلوماسية. البيان الصادر عن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، تامي بروس، والذي أشار إلى مناقشة (الخطوات التالية) دون تفصيل، يعكس رغبة في الحفاظ على قدر من السرية الدبلوماسية والمرونة، وربما اختبار جدية الأطراف قبل الإفصاح عن خطط قد تُعرقَل. هذه الضغوط الأمريكية غير المباشرة تعني أن واشنطن تفضل عدم الكشف عن خطواتها مسبقاً لتفادي إعطاء أطراف النزاع أو حلفائهم الإقليميين فرصة للتخطيط المضاد. وفقاً لتحليلات دولية، قد تكون الإدارة الأمريكية في مرحلة تقييم العقوبات أو الحوافز، لكنها تنتظر ردود أفعال الأطراف قبل الإعلان.

هذا التكتيك الدبلوماسي يترك الباب مفتوحاً لخيارات متنوعة مثل تصعيد الوساطة عبر السعودية أو الاتحاد الأفريقي، أو فرض عقوبات على أطراف تُتهم بإطالة أمد الصراع (مثل داعمي فاغنر الروس)، أو تقديم مساعدات إنسانية مشروطة بوقف القتال. كما تُشير تقارير صحفية عالمية إلى أن واشنطن قد تستخدم هذا الغموض للضغط على حلفائها في الرباعية لتقديم تنازلات قبل الإفصاح عن خطوات ملموسة، خاصة وأن الأزمة في السودان معقدة، وأي إعلان عن خطوات محددة قد يفشل في حال تغير الميدان العسكري.

ومع ذلك، لا يمكن فصل هذا التحرك الأمريكي وبين الديناميكيات الإقليمية المعقدة. فمن الواضح أن دول المجموعة الرباعية نفسها ليست على قلب رجل واحد في مقاربتها للصراع السوداني، مما يُشكل عقبة كبرى أمام أي توافق فعّال. تتباين المصالح والأجندات بشكل جوهري؛ فبينما تميل بعض دول الرباعية إلى دعم الجيش السوداني كضامن لاستقرار الدولة ووحدتها ولأمن الحدود، تشير بعض التقارير إلى أن أطرافاً إقليمية أخرى قد تكون لها مصالح اقتصادية ونفوذ يتشابك مع قوات أخرى في الصراع، مفضلةً مقاربات تركز على التحول المدني بشكل قد يتعارض مع المنظور التقليدي لدعم المؤسسة العسكرية.

هذا التضارب لم يعد سراً، وقد تجلى بوضوح في السابق عندما أدت الخلافات إلى صعوبة بالغة في صياغة بيانات إقليمية موحدة حول السودان، بل وصلت أحياناً إلى تجنب ذكر الصراع السوداني تماماً في بيانات هامة، كما حدث في البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي في الكويت قبل يوم واحد من قمة واشنطن. هذا الإغفال المتعمد يُشير إلى عمق الانقسام وعدم القدرة على التوصل إلى مقاربة متفق عليها. تقارب وجهات النظر بين هذه القوى الإقليمية، إذا كان ممكناً، يتطلب مفاوضات شفافة حول المصالح المتباينة، وبناء الثقة من خلال تنسيق أمني فعّال، والالتزام المشترك بخطوط حمراء واضحة، وصولاً إلى صياغة رؤية مشتركة للسودان ما بعد الصراع تتجاوز المصالح الضيقة.

لفهم أعمق لديناميكيات الصراع وفعالية أي ضغط دبلوماسي، لا بد من مقاربة الخطابات الرسمية مع الواقع الميداني القاسي. خطاب قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي، في الثاني من يونيو 2025، يصف الصراع بأنه حرب تحرير ضد (قوى الشر)، ويرسم صورة مثالية لـ(جيش أخلاقي) ملتزم بالقيم. هذا الخطاب، الذي يسعى لاكتساب الشرعية وتعبئة الأنصار، يتناقض بشكل صارخ مع تقارير موثقة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تُنسب لقواته، من عنف ضد المدنيين ونهب واسع النطاق وعنف جنسي وتشريد قسري. هذا التناقض يُثير تساؤلات عميقة حول مصداقية أي رؤية مستقبلية تهدف لبناء دولة تقوم على القانون.

في المقابل، فإن الجيش السوداني، الذي تتهمة الولايات المتحدة باستخدامه أسلحة كيميائية، يواجه أيضاً انتقادات لاذعة بشأن مسؤوليته عن تصعيد الصراع ومعاناة المدنيين نتيجة للقصف العشوائي وتدمير البنى التحتية. كلا الطرفين، بانتهاكاتهما وسعيهما للهيمنة العسكرية المطلقة، يفتقران إلى الإرادة السياسية الحقيقية لوقف القتال. هذا الواقع، الذي يتجاوز أي خطاب دبلوماسي، هو ما يبعث الشكوك في مدى فعالية أي ضغط خارجي، مهما بلغت قوته وتوحيده، لأن الطرفين لا يزالان يعتقدان بقدرتهما على تحقيق النصر العسكري، مما يُعيق أي تقدم دبلوماسي ويجعل من التسوية السلمية أمراً بعيد المنال في الأفق القريب. كما تُشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الأطراف المتحاربة لا تلتزم بوقف إطلاق النار المتكرر، مما يجعل الإعلان عن خطوات واضحة ومحددة زمنياً مجازفة دبلوماسية كبرى.

من وجهة نظري، فإن توقعات نجاح هذه المبادرة في تحقيق اختراق حاسم لا تزال حذرة ومتواضعة. العقبات الرئيسية تتمثل في عمق التباين الإقليمي، وغياب الإرادة السياسية لأطراف الصراع، وتعقيد الوضع على الأرض الذي يشمل مصالح اقتصادية وشبكات إجرامية. ورغم وجود مبادرات دبلوماسية أخرى من الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) أو الأمم المتحدة، فإن تركيز الولايات المتحدة على الرباعية يُشير إلى محاولة استغلال تجميع خاص من النفوذ السياسي والاقتصادي. أما عن الضغط الأمريكي المستقبلي، فمن المُجمع عليه أن واشنطن ستواصل وتُكثّف الضغط الدبلوماسي على دول الرباعية لتنسيق مواقفها، لكن يُستبعد تماماً أن تُقدم الولايات المتحدة على تدخل عسكري مباشر أو دعم عسكري لطرف على حساب آخر في السودان. فالولايات المتحدة ملتزمة بموقفها الرافض للحل العسكري، والتدخل المباشر قد يُورطها في مستنقع آخر.

الضغط على الدول الإقليمية سيبقى دبلوماسياً وسياسياً في المقام الأول، وقد يتضمن ربط بعض جوانب التعاون أو التلويح بعواقب دبلوماسية غير معلنة في حال استمرار التعنت.
في حال فشل هذه المبادرة في تحقيق تقدم جوهري، قد تضطر الولايات المتحدة إلى اللجوء لخطط بديلة. هذا يشمل تصعيد العقوبات الشاملة لتشمل المزيد من الكيانات والأفراد المرتبطين بالصراع، ومحاولة استهداف أي جهات خارجية تُقدم دعماً مادياً أو عسكرياً، حتى لو كانت حلفاء. يمكن الاستشهاد بتجارب تاريخية مثل التحول في الاستراتيجية الأمريكية بالصومال في التسعينيات نحو عقوبات أكثر تحديداً بعد فشل التدخل المباشر، أو الضغط على أطراف في ليبيا ما بعد 2011. كما قد يُركز الضغط على المنظمات الدولية لفرض عقوبات أممية أو حظر توريد أسلحة. وقد تُعيد واشنطن تقييم شراكاتها الإقليمية مع الدول التي لا تتعاون بفعالية، على غرار الضغوط التي مارستها في ملفات كاليمن. هذا بالإضافة إلى العمل على عزل الأطراف المتحاربة سياسياً دولياً، وزيادة الدعم الإنساني بشكل منفصل عن الحل السياسي في ظل تدهور الأوضاع.

علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال حسابات واشنطن المتعلقة بمواجهة النفوذ الأجنبي في السودان؛ فالولايات المتحدة لا ترغب في الكشف عن استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الروسي (عبر مجموعة فاغنر) أو الإيراني (المزعوم في شرق السودان) قبل التنسيق الكامل مع حلفائها الأوروبيين. فوفقاً لمراكز الأبحاث الأوروبية، تدرس الإدارة الأمريكية حزم عقوبات مشتركة مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تنتظر توافقاً داخلياً قبل الإفصاح عنها.

في الختام، يظل السؤال الأكثر إلحاحاً هو ما إذا كان أي حل مستقبلي سيُراعي مصالح الشعب السوداني أم مصالح القوى الإقليمية والدولية. تُشير تحليلات عديدة إلى أن التسويات في الصراعات غالباً ما تُصاغ لتلبية المصالح الاستراتيجية للقوى الفاعلة (الأمنية، الاقتصادية، الجيوسياسية، ومنع الفوضى)، مما قد يؤدي إلى حلول تُقدم استقراراً هشاً على حساب التحول الديمقراطي والعدالة والمساءلة عن الانتهاكات، خاصة في ظل ضعف الصوت المدني السوداني الموحد في عملية المفاوضات. تبقى المخاوف كبيرة من أن تُترجم هذه المصالح إلى اتفاقات قد لا تُلبي طموحات الشعب السوداني في بناء دولة مدنية حقيقية قائمة على القانون والمساءلة، وتخاطر بترسيخ نظام غير ديمقراطي. إن قمة واشنطن تُعدّ خطوة هامة في مسار دبلوماسي معقد، لكنها تُلقي بظلال من التساؤلات حول قدرتها على تجاوز تعقيدات الأجندات المتضاربة وتقديم حل شامل ودائم يخدم تطلعات الشعب السوداني ومستقبل البلاد.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.