قرن من الزمان وغياب القرار والإختيار فيما يتعلق بالنظام السياسي في السودان

طاهر عمر
قرن كامل من الزمان قد مر على نشر أفكار ماكس فيبر وفكرته عن مفهوم تفسير ديناميكية المجتمع الحديث وترسيخ فكرة الدولة الحديثة وهو عندما يتحدث عن الدولة الحديثة يتخطى الدولة الشمولية في إنتقاده للشيوعية ويتخطى الملكيات التقليدية ويؤسس لمجتمع في إطار الدولة الحديثة ويعني بها مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي حيث تصبح مفاهيم الفكر الليبرالي ليست نظم حكم فحسب بل أن الليبرالية قد أصبحت بديلا للفكر الديني.
ونقول مثل هذا القول ونكرره لأن أكبر مفكري السودان ما زالوا في إلتباس مقيم ويظنون أن الدولة يمكن أن تكون شمولية كما يظن الشموليين من كل شاكلة ولون في السودان أو تكون دولة عسكرية يقودها جيش كما يظن المتحمسون في دفاعهم عن حرب الجيش الكيزاني مع صنيعته الدعم السريع وهذا كله بسبب ضعف الفكر وغياب مناهجه في السودان.
وحيرة النخب السودانية وعجزها عن إتخاذ قرارها وإختيارها فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي الذي يفسر ظاهرة المجتمع البشري أي عجزها عن إختيار النظام الليبرالي سببه كامن في صميم الثقافة التقليدية العربية الإسلامية التي تهيمن على أفق النخب السودانية وللأسف هي مجرورة وراء قاطرة الفكر وكساده في العالم العربي والإسلامي التقليدي وقد إنتبه لها كثر من مفكري العرب وعلماء الإجتماع في العالم العربي وقدموا فكر ممتاز يصلح لكسر الطوق للفكر التقليدي والشب عنه.
ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر عالم الإجتماع الفلسطيني هشام شرابي في نقده الحضاري لحالة المجتمع العربي وهو أسير الأبوية المستحدثة وهي تحاول الترقيع في فكر يتحدث عن الحداثة والأصالة وغيرها من تهويمات التلفيق والتوفيق الكاذب وقد ظهرت في السودان في أتباع المرشد الكيزاني والامام الانصاري وأتباع الختم وحتى في أفكار أتباع النسخة المتكلسة من الشيوعية السودانية في علمانية محابية للأديان كنتاج لحوار حول الدولة المدنية وكلها أفكار رازحة تحت ثقل الأبوية المستحدثة التي تحدث عنها هشام شرابي وهي تكشف لثام النخب السودانية وتجعلهم يصتفون في صفوف أزمة المثقفون العرب والغرب كما تحدث عنها هشام شرابي في أزمة المثقف العربي وعجزه الدائم عن مواجهة التحدي والتغلب عليه.
هشام شرابي عندما يتحدث عن الأبوية المستحدثة وهي قبول النخب العربية بوجه من وجوه الحداثة إلا أنهم يريدونه وفقا لعقل الحيرة والإستحالة نتاج سطوة سلطة الأب وميراث التسلط وأكبر حاضنة لها هو الفكر الديني التقليدي وبايمانه التقليدي وبايمانه التقديسي والتبجيلي وهذا هو مكمن الضعف وكعب أخيل النخب السودانية وهي أسيرة الفكر الديني ولهذا ضاعت فرصة القرار والإختيار لنظام حكم ليبرالي يصبح بديلا للفكر الديني وهذا هو سبب فشل النخب وإفشالهم لثورة ديسمبر وشعارها الجبار حرية سلام وعدالة.
مع هشام شرابي يمكننا أن نذكر أيضا عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب وهو يكاد يكون قد حاول معالجة ظلال الأبوية المستحدثة التي تحدث عنها هشام شرابي ولكن بفكر قدمه في محاولته لإعادة إكتشاف أفكار قرامشي والمضحك أن الطاهر لبيب وصل لما وصل إليه هشام شرابي بأن النخب العربية وصلت لطريق مسدود حيث أصبح المثقف العضوي في العالم العربي والإسلامي التقليدي يمثله أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب وحل الفكر الديني وكذلك يمثله أتباع الأيديولوجيات المتحجرة كأتباع نسخة الشيوعية المتحجرة وهذا قمة الإنحطاط الفكري.
وربما يكون كل ذلك نتاج إنحطاط تمر به الشعوب العربية الإسلامية التقليدية بسبب عجزها عن إعمال القطيعة مع التراث الديني المؤدلج في وقت كان ينبغي أن يكون فيه المثقف العضوي من الطلائع الذين يحققون طموح الطبقات الصاعدة والأجيال الصاعدة و هؤلاء لا يحقق طموحهم غير الفكر الليبرالي وعليه في عصرنا الراهن لا يكون المثقف العضوي غير المفكر الليبرالي الذي يؤمن ببناء مجتمع وفقا لقدرات عقلنا البشري في فراقه للفكر اللاهوتي وفراقه لكل فكر ميتافيزيقي.
وبالتالي لا يكون المثقف العضوي إلا من ضمن من يؤسسون لمجتمع حديث بفكر ليبرالي يكون فيه الفكر الليبرالي بديلا للفكر للدين أي بإختصار في مجتمعنا الحديث أن المثقف العضوي هو من يخطط لتحقيق مجتمع ليبرالي ينتصر للفرد والعقل والحرية ويخرج أفراد المجتمع من سطوة الأبوية المستحدثة نتاج الفكر الديني التقليدي وسطوة أتباعه ولا يهمهم غير شهوة السلطة وسطوة الإستبداد كما يفعل الكيزان في السودان من قبل ما يزيد على الثلاثة عقود وعليه يصبح دور المثقف العضوي في كفاحه ضد أتباع وحل الفكر الديني بأن يكون ليبرالي الفكر منتصر للحياة وفي مواجهة دائمة وبوعي متقد ضد الكيزان العدميين أعداء الإشراق والوضوح وأذيالهم.
للتوضيح مسألة القرار والإختيار للفكر الليبرالي هو العمود الفقري لفكر ريموند أرون في مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم حيث كانت أوروبا تعيش في أزمة العلوم الأوروبية وريموند أرون كان في إختلاف فكري كبير مع أساتذته في فرنسا و أغلبهم كانوا تحت تأثير فكر الوضعية المنطقية لأوجست كونت وماركس في وثوقياتها وحتمياتها و يقينياتها بعكس فكر علماء الإجتماع الألمان الذين قد تأثر بفكرهم ريموند أرون وقد وصل لفكرة النقد المعرفي وقد تخلص من أثر فلسفة التاريخ التقليدية منذ أيام سيطرة الفكر الارسطوإفلاطوني مرور بالفكر المسيحي وآخره في الفلسفة المثالية الالمانية وقد بلغت منتهاها في كل من الماركسية والهيغلية.
وعليه تصبح فلسفة التاريخ الحديثة متخطية لفكرة اليد الخفية والفكر المطلق وأن الفكر الميتافيزيقي لم يعد أفقا فلسفيا يتيح للفلسفة أن تقدم عبره مشاريعها الفلسفية وبالتالي تصبح أفكار النيوكانطية أفق الفكر الفلسفي الجديد ويصبح إختيار الديمقراطية الليبرالية متاحا وممكن و رفض النظم الشمولية من نازية وفاشية وشيوعية واجب أخلاقي به يصبح فكر النظم الشمولية فكر عابر ومؤقت في زمن الشرط الإنساني حيث يستطيع الإنسان إعادة خلق المجتمع البشري وفقا لقدرات عقلنا البشري وبعيدا عن اللاهوت والميتافيزيقيا.
لذلك نجد ريموند أرون قد فضل وإستحسن فكر ماكس فيبر ودلتاى وجورج زيمل وإدموند هوسرل على فكر دور كهايم وفكر أوجست كونت وفكر ماركس وبسبب فكر ريموند أرون الذي أتى به من الفلاسفة الألمان وعلماء إجتماعهم إنعتقت فرنسا من فكر فلسفة التاريخ التقليدية وهذا ما ينتظر ساحة فكرنا السوداني لكي تلحق بمواكب البشرية وخاصة أوروبا وقد أصبحت تمثل مختصر تاريخ البشرية في زمن قد أصبح ولأول مرة أن تاريخ البشرية تاريخ واحد في ظل قيام الثورة الصناعية.
وهذا ما فطن إليه نهرو في الهند ونجده قد فعل فيما يتعلق بالفكر نفس خطوات ريموند أرون في فرنسا فيما يتعلق بالقرار والإختيار وقد أختار الفكر الديمقراطي ورفض نهرو الشيوعية كنظام شمولي بغيض وأختار للهند أن تكون هند ديمقراطية علمانية تقنية وعندما سئل لماذا رفض الشيوعية للهند؟ رد نهرو على سائليه أنه قد قراء رأس المال لماركس حيث يزعم عباقرة الرجال بأنهم قد قراؤه وفي حقيقة الأمر لم يقرؤه أما هو فقد قراءه ولم يجد فيه ما يجعله أن يكون ماركسيا.
رد نهرو على سائليه يكاد يكون قد قال نفس كلام ريموند أرون عن كتاب رأس المال لماركس حيث قال أنه قراءه خلال ثلاثة عقود ولم يجد فيه ما يجعله أن يكون ماركسيا ولهذا وصف ريموند أرون في فرنسا بأنه المثقف غير المنخدع بماركسية ماركس وعليه إن إختيار نهرو للديمقراطية والعلمانية والتقنية للهند و رفضه للشيوعية يجعله مثقف عضوي لأنه قد حقق طموح الطبقات الصاعدة في الهند من خلال فكر ليبرالي يؤمن بقيم الجمهورية وأقنع به المهاتما غاندي الذي كان يحلم بعودة الهند التقليدية.
في ختام هذا المقال يجب العودة لفكرة القرار والإختيار للنظام السياسي في فكر ريموند أرون وهو بالمناسبة مؤرخ غير تقليدي وإقتصادي وفيلسوف وعالم إجتماع فرنسي ساعدته معرفته بالنظريات الإقتصادية وتاريخ الفكر الإقتصادي بأن يلاحظ كيف تكون لحظات إنقلاب الزمان وكيف إنتهت فيها فلسفة التاريخ التقليدية وكيف بداءت بعدها فلسفة التاريخ الحديثة منتصرة للفكر الليبرالي في تأسيسه لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد.
وعليه كان ريموند أرون مدركا لنهاية الليبرالية التقليدية ومدرك لبداية الليبرالية الحديثة لذلك لم ينخدع بأفكار الوضعية لأوجست كونت عندما أسسها على فكرة مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية ولم ينخدع بأفكار ماركس وقد حاول دراسة المجتمع عبر نمط الإنتاج الرأسمالي أما فكره أي فكر ريموند أرون الذي إعتمد عليه في مسألة القرار والإختيار فيقوم على فكرة المجتمع والديمقراطية في فكر توكفيل وهذا ما جعله يأتي بأفكار توكفيل عن الديمقراطية الليبرالية من قلب النسيان ويحارب بها أفكار كل من ماركس وأفكار أوجست كونت كحتميات ووثوقيات ويقينيات.
أما فضاء فكره وفيض علومه فقد جعل لها فضاء تلتقي فيه الديمقراطية والفلسفة وعلم الإجتماع لكي يخرج منها بفكرة الشرط الإنساني ولا تمثله غير الفلسفة السياسية والفلسفة الإقتصادية لتجسيد فكرة العيش المشترك وفقا لمعادلة الحرية والعدالة في تجسيدها لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد ولا تكون بغير العلاقة المباشرة بين الفرد والدولة في مفهوم الدولة الحديثة التي لا تحقق إلا عبر الفكر الليبرالي.
وعليه نقول للنخب السودانية أن مسألة القرار والإختيار للنظام السياسي مهمة وقد وضحناها في كيف أختار نهرو الديمقراطية والعلمانية والتقنية للهند وقد أصبحت الهند اليوم من أكبر الديمقراطيات وعليه نقول لكم أن شعار ثورة ديسمبر المجيدة حرية سلام وعدالة لا يمكن تحقيقه بغير إتخاذ قرار يختار الديمقراطية الليبرالية للسودان والعلمانية كما أختار نهرو للهند الديمقراطية والعلمانية والتقنية والعلوم الحديثة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة