اخبار السودان

قراية (خارج الصندوق) لكلام حميدتي (هذه هي مقررات مؤتمر جنيف)

 

قراية (خارج الصندوق) لكلام حميدتي
(هذه هي مقررات مؤتمر جنيف)
شمس الدين ضوالبيت

توزعت التفسيرات والتأويلات لخطاب حمـ يـ تدي يوم الأربعاء الماضي بين مجموعتين: من أعتبر أن كلامه إيذان بتصعيد الحـ رب في السودان إلى مرحلة جديدة، جرى وصفها في بعض الدوائر من قبل بأنها (ح رب الكل ضد الكل، والكل المقصود هنا هو مكونات اجتماعية وإثنية في المقام الأول)، تُستخدم فيها سياسات الأرض المحـ روقـة والقـتتتـ ل على الهوية، ولا يُعرف كيف سينجلي غبارها ولن يكون فيها بالتأكيد منتصر وخاسر، لأنها ستكون معـ ارك الخـ راب الشامل للوطن ..

يستند هؤلاء على الإشارات العنصرية والجهوية للحواضن الاجتماعية مما ورد في الخطاب الطويل، والعبارات الشخصية القاسية في حق العس كريين الثلاثة، والتهديد بحشد مليون مجـ ند، و’رد الصاع صاعين‘ و’والله حنقاتـ لكم‘ والحديث المكشوف عن الدع م المصري للـجيــ ش، ونبرة المظلومية والمرارة، وخلو الخطاب من أي حديث إيجابي عن التفاوض أو السلام أو الديمقراطية أو الدولة المدنية، والاستنفار بالإبلاغ فوراً ومنع التصوير …الخ.

المعسـ كر الثاني، هلل منذ اللحظات الأولى بعد الخطاب بأنه إعلان عن رفع الراية البيضاء والرغبة في الاستسلام، وإقرار بالهزيمة العسكرية والسياسية، وبأن الحملة العسكرية كانت موجعة، وحققت أغراضها في استعادة مواقع استراتيجية، وأن الم ليشـ يا في حالة تراجع وجنودها قد فروا، وانقطعت الامدادات عنها بفعل العمليات الع سكرية وأن مرحلة القضاء عليها وتخليص السودان منها بدأت بنجاح..

استند هؤلاء أيضاً على إشارات كثيرة قالوا إنها وردت في الخطاب بدءا من كثرة الشكوى، وتكرار أن جنووود الد&عم الـسر**يع قتلوا غدراً في جبل موية، وقوله “فقدنا خيرة شبابنا”، و”بتضربونا بالطيران لييه نحن كفار؟” ومحاولات رفع المعنويات: “انتوا ما انهزمتو”، وردت حوالي 6 مرات، “وما قصرتو” أيضا 6 مرات و”ما تضرب ذخيرتك في الهوا، البشرى ممنوع” ..الخ.

دون شك كلا الفريقين لديه شواهده المعتبرة من الخطاب: من يقول إن الح رب يادوب بدت في السودان وستصل إلى مدى لا يعلمه إلا الله، ومن يقول إن ما بدأ هو مع ركة القضاء على المليـ ش يا وتخليص السودان منها. لكن كلا الفريقين يتجاهل عنصرا رئيسيا ثالثاً ورد في الخطاب أو يفسره بما يدعم خطه، وهو العنصر الأهم في الخطاب كله، لأنه يكشف قرارات مؤتمر جنيف المنعقد لمدة 10 أيام، 14 أغسطس 2024، بخصوص الحرب في السودان، هذا العنصر المفقود هو:

نبرة وعبارات المرارة المصادمة للمجتمع الدولي والإقليمي في خطاب حمـ يـ دتي ..!

وجه حمـ يـ دتي لوماً شديداً وبلهجة مصادمة للمجتمع الدولي، مستخدما في توجيه هذا اللوم تعبير (كلهم .. وعلى رأسهم أمريكا والإتحاد الأوروبي.. كلهم وفولكر والرباعية والثلاثية والإتحاد الأفريقي .. كلهم..!)..

فماذا فعلت هذه الجهات لتستحق كل هذا اللوم؟

قبل الإجابة يجب الإقرار بأن مؤسسة الخارجية الامريكية، برغم الضغوط على وزيرها بلينكن لتحقيق انجاز لحساب الديمقراطيين في الانتخابات، إلا أنها ووزيرها (إضافة إلى الوفود الأخرى عالية المستوى) لم يكن من الممكن أن تدخل في مغامرة مجهولة النتائج والإنجازات كليا، فمؤسسة الخارجية وأجهزة المخابرات الأمريكية خبيرة ضليعة في إدارة الأزمات، وفي الوصول إلى ما تريده بالوسائل الدبلوماسية والعس كرية والاستخباراتية، ومن المؤكد أنها عملت عليها جميعا قبل بدء اجتماعات جنيف، لا سيما مع مصر التي أضيفت لمنبر جدة مع الأمارات، لذلك فمن المؤكد أن الاجتماعات التي انعقدت في مكان مجهول بسويسرا، ولم تنقطع اتصالاتها بالجيش السوداني يوما، من المؤكد أنه كان لها سقفها الأعلى ولكن أيضاً سقفاً أدنى، حتى من قبل أن تنعقد..

هناك أمر مهم يجب وضعه في الاعتبار في هذا الإطار، وهو أن هناك اتفاق استراتيجي بين الولايات والمتحدة ومصر، بألا تتخذ الولايات المتحدة أمراً بشأن السودان دون مشاورة مصر. الذين تابعو زيارة الرئيس ترمب للملكة العربية السعودية في مايو 2017، ولقائه بالرئيس المصري على هامشها، ربما عرفوا حينها بذلك الاتفاق.

المسألة الثانية قبل الإجابة على السؤال هي التعرف على شروط الجيش للمشاركة في المفاوضات وعمليات وقف الحرب. منذ اشتعال الحرب كان خط الجيش وقائده البرهان هو أن الجيش هو الدولة وأن قائده هو رئيس الدولة، وكانت الجولات لعديد من الدول وتوقيع اتفاقات (ورقية) معها، لمجرد التأكيد على هذه المسألة. كذلك صدرت بيانات واحتجاجات صاخبة في كل مرة ساوت فيها جهات دولية أو داخلية بين الجيش والد**ع*م.. باختصار كان هذا الخط هو خط كل المؤسسات المتبقية العاملة من بورتسودان..

الشرط الثاني للجيش هو عودة المؤتمر الوطني للحكم أو للساحة السياسية على أقل تقدير، بعد العزلة والعقوبات التي تعرض لها عقب ثورة ديسمبر.. موضوع أن القوات الم*س*لحة هي جي*ش الحركة الإسلامية فحقيقة لا تقبل المغالطة بحكم الواقع العملي، كل سلك ضباط الجيش وحتى آخر ملازم هم بنسبة 80% أعضاء مختارون من تنظيم الحركة الإسلامية.. مصالحهم ومستقبلهم وولاؤهم مبذول لها، يقاتلون جنباً إلى جنب مع كتائبها، وقد خرًب الج*ي*ش الفترة الانتقالية، بل وأشعل الحرب من أجل مصالح المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية..

على المستوى الع س كري لم يكن الجيش ليعاود الجلوس في مفاوضات جنيف ولا حتى مواصلة مفاوضات جدة بسبب التغييرات الكبيرة على أرض المعارك التي حدثت منذ التوقيع على ذلك الاتفاق في مايو 2023: فقد سيطرت قوات الد**ع م، على ولايات عديدة ومساحات شاسعة من البلاد ومواقع ع سكر*ية مهمة .. أي مفاوضات تنتهي بوقف إطلاق نار مراقب كانت ستكشف الهزائم المزرية التي تعرض لها الجيش، وتثبتها كمكتسبات لغريمه يضعه في موضع قوة في أية مفاوضات.. لذلك شرط الجي*ش كان ضرورة تحقيق أية انتصارات عسكرية مهما كانت ضئيلة والنفخ عليها إعلامياً من أجل إيجاد مبرر للجلوس في طاولة التفاوض..

السؤال مرة أخرى ماذا فعل المجتمع الدولي (وعلى رأسه الأمريكان)، بتعبير حـم*ي*دتي، ليستحق كل ذلك اللوم الذي كاله لهم؟

والإجابة أنها تخلت عن الاتفاق الإطاري الذي كانت من أهدافه المعلنة برغم علله الكثيرة دمج الجيوش والعودة لحكم مدني ديمقراطي، واعتمدت بدلاً عنه (الحل المصري)، الذي لبي شروط الجـ يش (لحل) الأزمة السودانية، على النحو التالي:

فتح الممرات لدخول المعونات الإنسانية،
اعتبار القوات المسلحة هي الدولة السودانية والممثل الشرعي لها،
اعتبار قوات الد**عم الـ سـ*ريع ملـ*ي*شيا متمردة على الدولة السودانية،
تقاسم السلطة المركزية بعد وقف الحرب بين الجيش (ممثلاً للمؤتمر الوطني) والد‘عم (ممثلاً للمدنيين!)
في حالة تعذر ذلك (وهو الأرجح) تقسيم السودان بحيث تذهب دارفور وكردفان للدع م،
عودة المؤتمر الوطني إلى الحكم تدريجيا من خلال الجيش،
قوات أفريقية للفصل بين القوات ومتابعة ومراقبة تنفيذ مقررات جنيف.
من الطبيعي أن يكون قائد الد ع م السـر*يع على علم بكل هذه المسائل من واقع المشاركة في اجتماعات جنيف حتى آخر يوم فيها. ومن المؤكد أن المجتمع الدولي قد مارس عليه كل الضغوط الممكنة لكبح تطلعاته المترتبة على الانتصارات الع سكـ رية التي حققتها قواته، وآخرها العقوبات المالية على القو*ني. ولكن أهم هذه الضغوط لكسر أي ممانعة من جانبه هي إطلاق يد الطيران المصري لضرب قواته. فمن جانب يكسر هذا التدخل أية ممانعة أو تطلعات لتمدد مستقبلي لقوا*ت الدعم الس*ر*ي*ع، ولكنه يوفر من الجانب الآخر الانتصارات العسكرية التي يشترطها الجي*ش للعودة للتفاوض..

خطاب حمـي*دتي هو في آخر الأمر إعلان موافقة بمقررات مؤتمر جنيف في صيغتها المصرية. وقد كانت رسائل الخطاب مصممة لتهيئة قواته والقوى السياسية المدنية وأهل دارفور والشعب السوداني عامة، لما سيترتب على هذه المقررات..

فأولى قائد الدع م الس،ر،ي،ع بداية الخطاب لتطمين قواته بأنهم لم ينهزموا (كررها حوالي 6 مرات)، وأكد لهم أنهم لم يقصروا (كررها 5 مرات)، و(عافي منكم) و(الاتحملتو ما في زول اتحملو) ..الخ..

عدد أفضاله على المدنيين (باعتباره سيكون ممثلا لهم في حالة تقاسم السلطة المركزية) وسرد وقوفه مع الثورة، واستنكاره لمن قالوا بغير ذلك (كيف ما كان عندنا دور؟) وأورد تصديه لجنرالات الحركة الإسلامية (ابن عوف وكمال عبد المعروف وزين العابدين وقوش). بالنسبة للثوار، كال حم *يدتي الإدانات للمؤتمر الوطني، وقال للثوار إن من أمر بفض الاعتصام هو البرهان، ودليله أن مقتنيات الثوار وبقايا مواد اعتصامهم موجودة في الفرقة السابعة بأمر البرهان..

في حالة تقسيم السودان، فحاول حم**يدتي استخدام لغة متصالحة ومعاتبة في نفس الوقت لمناوي (باعتباره أقوى الغرماء في دارفور) لاختياره جانب المؤتمر الوطني.. أما بالنسبة لفلول المؤتمر الوطني فطلب من قواته أن تقطع دابرهم في (دارفور وكردفان) على وجه التحديد.. والأرجح أن تكون دعوات الاستنفار لمليون مجند مقصوداً بها حماية دارفور وكردفان..

بالنسبة للشعب السوداني، وبعد أن أكد حم*ي*تي أنه حي يرزق لقطاع واسع من السودانيين صدقوا مزاعم الوسائط والقنوات بموته (بارتجاله لخطابه بدلا عن القراءة، وشرب جرعة ماء أثناء الكلام، والحديث عن وقائع حديثة مثل جبل موية)، كرر دعواته السابقة لقواته بأن (المواطنين خط أحمر)، وأيضاً أن لا علاقة لقواته بسرق ونهب المواطنين. وفيما يخص الاتهامات الموجهة له، التي تروج لها الوسائط، بأنه عميل لدولة الأمارات، حرص الخطاب على أن يوضح بالمكشوف بأن قادة الجيش والمؤتمر الوطني (الذين سيحكم معهم البلاد في حالة تقاسم السلطة المركزية) هم أيضاً عملاء للمصريين (ويا لهوان السودان والسودانيين..!) ..

من جانبه شرع المجتمع الدولي في الإعداد للتنفيذ، كما ذكرتُ، بإطلاق يد الطيران المصري لتحقيق انتصار عسكري للجي*يش، وإعلان بريللو عن البدء في اتصالات مع الإتحاد الأفريقي لتجهيز قوات مراقبة، وزيارة وفد من الاتحاد الأفريقي لبورتسودان، والحديث حول زيارة مرتقبة لوفد أمريكي بقيادة بريللو إلى بورتسودان لتعزيز شرعيتها، ونفض الغبار عن آلية الإتحاد الأفريقي بقيادة الرئيس موسفيني للجمع في لقاء بين البرهان وحميد*تي ..

كذلك نشطت عناصر الاتفاق المحلية، فأعلنت جهات مقربة من السلطة العسك*رية قرب إعلان إلغاء قرارات حل المؤتمر الوطني، وعادت بعض قياداته من الخارج واستُقبلت بحفاوة في بورتسودان، وأصدر حزب المؤتمر الوطني بيانا في الساعات الأولى للمعارك العس*ك*رية أواخر سبتمبر في الخرطوم هنأ فيه القوات الم*سلحة بانتصاراتها الكاسحة، وظهر قادة كتائب البراء بن مالك وقادة المؤتمر الوطني بلباس عس*كري مع قادة الجي*ش في الخطوط الأمامية ..الخ ..

خلاصة القول يحدث الآن ما سبق أن حذرنا منه منذ اليوم الثاني للحرب، بأن استمرارها سيؤدي لتدخل إقليمي ودولي لن يراعي تطلعات السودانيين للديمقراطية والنهضة، التي عبروا عنها في ثوراتهم وهباتهم لأكثر من قرن من الزمان وآخرها ثورة ديسمبر، وأن الحرب ستفتح الباب واسعاً لتوجهات الإخوان المسلمين التي عبروا عنها في السابق (بمثلث حمدي) لتمزيق السودان.. هذه المخاوف أضحت اليوم مقررات جاهزة للتنفيذ..

مع ذلك لم ينقضي كل الوقت لمجابهة هذه المخططات، ولا زال أمام السودانيين بقيادة ثوار ديسمبر وقواها السلمية الحية التوحد والانتظام لمواجهتها. ولن تعجزهم في ذلك الوسائل كما لم تعجزهم من قبل عندما توحدوا لإسقاط نظام الدولة الدينية الإخوانية ..

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *