يوسف عيسى عبدالكريم

ربما تفاجأ الكثير من المراقبين للشأن السوداني في الخارج بالقرار الصادر عن قيادة كتيبة البراء بن مالك المنخرطة في القتال الدائر في السودان و المحسوبة على تنظيم الحركة الإسلامية بالتخلي عن دورها ال0٠0عسكري في معركتها ضد قوات الدعم السريع و التحول إلى لعب دور سياسي مدني في المرحلة المقبلة.و ربما مصدر الغرابة في القرار هو أن الجميع يعلم بأستمرارية العمليات العسكرية ضد الدعم السريع و التي لا تزال نشطة و ان الظرف الذي بسببه انخرطت كتائب الإسلاميين في القتال مع الجيش مازال قائما . كما أن الجيش الذي يتحالفون معه ما يزال يحشد قواته و يدير معركته و لم يصدر عنه حتى الآن أي بيان يشير لانتهاء الحرب او توقف العمليات العسكرية و القضاء التام على قوات الدعم السريع. ناهيك عن أن أجزاء واسعة من البلاد لا تزال خارج سيطرة الجيش مما كان يستدعي مضاعفة الجهد المبذول من حلفائه في الحشد والإعداد للقتال و ليس التولي عن الزحف المقدس و فك الارتباط عن الأنشطة العسكرية و التحول إلى لعب دور مدني أو سياسي .ولكن قرار كتيبة البراء لم يكن مفاجأة للعارفين بخفايا تطورات الصراع الدائر في السودان حالياً. بل ربما كان القرار متوقعاً وفق سياق الأحداث و مرتقبا منذ فترة.فمن المعلوم أن الجمهورية الثانية للإسلاميين و التي يسعون لإنشاءها بعد استعادة السلطة الكاملة على البلاد تقوم على أساس مشروع التقسيم باعتبار أن السودان بصيغته القديمة قبل حرب ١٥ أبريل أو ما اصطلح على تسميته بدولة ٥٦ لمن يعد في مقدور الإسلاميين السيطرة عليه و ذلك لقناعتهم بصعوبة أن تدين لهم بقية أقاليمه بالطاعة طواعية . كما كان يحدث في السابق إبان الجمهورية الأولى الإنقاذ واحد َو من المؤكد أن السلطة الحاكمة الجديدة ستعاني مرة أخرى من الاستنزاف لموارد الدولة المركزية من أجل دعم الأمن و لمجابهة الصراعات المتكررة و البؤر الملتهبة كما كان يحدث في عهد الإنقاذ واحد.لذا فإن خيار قطاع كبير من الإسلاميين المحسوبين على أبناء الشريط النيلي أصبح هو الذهاب إلى استحداث جنوب اخر دارفور يستمر فيه الصراع العسكري بحيث يتم فيه استنزاف طاقة الدعم السريع ودولته الوليدة و جعله مشغول في نفسه و في نفس الوقت التخلص عبره من الحركات المسلحة التي تكاثرت مثل الجراد و استقوت على الدولة و أصبحت تشكل خطرا واضحاً على السلطة الجديدة.لذا يرى الإسلاميين ضرورة استخدام هذه الحركات المسلحة كوقود في الصراع الدائر بدارفور بالزامها حجة أنها هي الملزمة بقيادة معركة تحرير دارفور طالما أن الإقليم يقع في نطاق قسمتها من السلطة و أن الحكومة المركزية يتمثل دورها فقط في مدها بالعتاد و السلاح أما المقاتلين فيجب أن لا تتوقع حركات دارفور أن يموت أبناء الشريط النيلي من أجل معركتها فأقاليمهم أولى بالحماية من قبل أبنائهم.و ربما هذا ما يفسر الانخفاض الملحوظ في أصوات الداعين لاستمرار الحرب بل بس و اكتفاءهم بمعركة تحرير الخرطوم كأنتصار و الترويج لها بأعتبارها ام المعارك و الانصراف بعدها لإطلاق المشاريع السياسية واشغال الشارع بقضايا الإنتقال السياسي و تكوين الحكومة الجديدة وإعادة الإعمار و الإيحاء للداخل بأن الحرب قد إنتهت في حين أن الجميع يعلم حقيقة أن نصف البلاد ( كردفان و دارفور) لا تزال خارج سيطرة الجيش .مما حدا ببعض قيادات حركات دارفور بالامتعاض والتصريح علانا بأن وتيرة العمليات العسكرية لو كانت إستمرت بذات الحماس الذي اديرت به معارك الجزيرة و الخرطوم لكان الجيش الأن على تخوم الفاشر.و من المتوقع أن يتم استخدام إقليم كردفان كمنطقة عازلة بفر زون و حائط صد أول او منطقة استطلاع يتم فيها ضرب و استهداف أي محاولة من الدعم السريع لعبوره من دارفور بغرض تهديد أمن الشمال الجديد و الوصول إلى الخرطوم التي ستظل عاصمة الجمهورية الثانية الشكلية بينما سيكون الشمال و الشرق و الوسط الجغرافي هم خريطة السودان الجديد الذي ستتركز فيهم التنمية و ستأوي إليهم موارد ومصالح الدولة الجديدة.و ربما اصطدم هذا المشروع الذي يخطط له في الخفاء بتحدي كبير و هو اشتمام حركات دارفور لهذه المؤامرة و إصرارهم على البقاء في محور السلطة الجديدة في بورتسودان و رفض اي محاولات لابعادهم خارج دائرة الفعل السياسى حيث رأينا تشبس جبريل إبراهيم بوزارة المالية و أصراره على البقاء في المطبخ السياسي كما سيطر مناوي على وزارة المعادن وكون حكومة لإقليم دارفور اتخذت من مدينة بورتسودان مقراً لها ويعتقد أن هذا هو الذي عجل بالمواجهة بين الإسلاميين المحسوبين على الشريط النيلي و أبناء دارفور في الحركات المسلحة فتعالت الأصوات الداعية إلى ضرورة طرد حركات دارفور من إقليمي الشمال و الشرق و دفعها إلى الذهاب و القتال في دارفور باعتبار أن معركتها هناك وان وجودها في الشمال ما هو إلا هروب من القيام بواجبها في حماية أهلهم.و ما قرار الجيش بإخراج الوجود العسكري من العاصمة الخرطوم لتمكين المواطنين من العودة إلى ديارهم والذي في ظاهره دعوة حق الا انه اريد بها باطل و يأتي في سياق الصراع المسكوت عنه. فالمقصود من القرار احراج حركات دارفور المسلحة فهي مطالبة بتقديم تبريرات أمام الشارع السوداني حال رفضها الخروج من الخرطوم كما ستكون في مأزق أكبر حال قررت الانسحاب و َ التموضع في أي من أقاليم السودان الجديد الشمال أو الشرق لأن السؤال الذي سيظل يلاحق قادتها هو لماذا لم تتوجه قواتهم إلى دارفور طالما أن معركتهم المؤجلة هناك لا تزال قائمة.و يأتي قرار تعليق كتيبة البراء بن مالك للعمل العسكري كورقة ضغط أخرى يراد بها إيصال رسالة واضحة لأبناء دارفور بأن معركة التحرير القادمة ستخوضونها لوحدكم فليس هناك من لديه الاستعداد لأن يموت بدلاً عنكم.وكما قال بني إسرائيل لموسى أذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.وربما أدركت حركات دارفور متأخرا انها ربما راهنت على الحصان الخاسر في صراع الجيش والدعم السريع. فمن ناحية قد خسرت الأرض وأصبحت مجبورة على القبول بخيارات الإسلاميين كأمر الواقع و من ناحية أخرى أصبحت وحيدة في معركتها ضد الدعم السريع بعد أن اكتفى الجيش في انتصاراته بتحرير الخرطوم و انخرط في عملية سياسية جديدة ستفضي به إلى الجمهورية الثانية.ولا عزاء لمن ظن يوماً إن للثعلب دينا.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.