بقلم: نجلاء البحيري

يوليو 2025

حين يصبح الصمت قاعدة، والكذب شعارًا، تخرج رواية كجرس إنذار يدوي في وجه الزيف، وتُثبت أن السرد لا يزال قادرًا على فضح الموارب والمخفي، لا بهدف الاستعراض، بل بغرض الإنصاف.

رواية «البتراء» للكاتب صلاح محمد الحسن القويضي نصٌّ ينزف صدقًا وألمًا.

يكتب بقلمٍ واعٍ لا يُجيد الهروب من المآسي، بل يلتقطها بدقة المؤرخ وصدق الشاهد.

لقد أجاد القويضي تطويع الرواية لتكون أداة كشف، وأداة معالجة أيضًا، فالأدب في البتراء لا يكتفي بتشخيص الوجع، بل يمدّ القارئ بما يشبه الطريق إلى الشفاء، أو على الأقل، إلى الاعتراف الإنساني بالندبة.

وإذا كانت “نجمة” بطلة الرواية هي الجسد الجريح، فإن القويضي هو الصوت الذي أعاد لها حقها في الحكي، وفي الاحتفاظ بكرامتها رغم كل محاولات التكسير.

هو يكتب كمن يفتح صدره للحقيقة لا ليبكي، بل ليُذكّرنا أن الكتابة فعل مقاومة، وأن الرواية ليست ملاذًا للهرب بل ساحة للقتال من أجل المعنى والكرامة.

▪️ أولًا: دلالة العنوان

يحمل عنوان الرواية البتراء دلالة رمزية تتجاوز معناها الحرفي. فهي لا تشير فقط إلى “نجمة” التي تعرّضت لبتر يدها، بل ترمز إلى وطنٍ مبتور، وأحلامٍ ممزقة، وأجسادٍ أنهكتها الحرب. وكأن البتر هنا لا يخصّ الجسد وحده، بل يمتد ليشمل الإنسان في كينونته، ومجتمعه في وعيه، وبلاده في حاضرها.

▪️ثانيًا: نبذة عامة عن الرواية

تسرد الرواية تجربة فتاة تُدعى “نجمة”، عاشت فصول الحرب في دارفور، وشهدت مآسيها مبكرًا. من طفولة منتهكة، إلى فتاة يافعة تُجبر على الهروب، ثم تعيش واقعًا قاسيًا في المعسكرات، ثم تتحول لاحقًا إلى شاهدة على الثورة من خلال علاقتها بالصحفية.

الرواية لا تقتصر على رصد مأساة فردية، بل تقدّم بانوراما للدمار الإنساني في السودان من خلال شخصية واحدة حملت الألم وحدها، لكنها مثّلت به آلاف الأصوات.

▪️ ثالثًا: البناء الفني للرواية

** الأسلوب السردي:

اتبَع الكاتب أسلوبًا سرديًا بسيطًا، مباشرًا، يخلو من التعقيد، لكنه مكثف في المعنى. استخدم تقنيات الراوي العليم والمونولوج الداخلي بتوازن، ما جعل القارئ قريبًا جدًا من “نجمة”، بل يكاد يسمع أنفاسها الخائفة.

** اللغة:

كانت اللغة وظيفية بالدرجة الأولى، مسخّرة لنقل الحدث والإحساس لا للزينة البلاغية. لكنها نجحت في تمرير قدر كبير من الوجع الإنساني والصدق الداخلي، دون تكلف.

** التصعيد الدرامي:

ظهر جليًا في مشهد بتر يد “نجمة”، وهو أحد أقسى مشاهد الرواية، ويعدّ نقطة تحوّل فارقة، ليس فقط في حياتها، بل في الرواية كلها. إنه لحظة انهيار الطفولة وبداية الألم العميق الذي لا شفاء منه.

▪️ رابعًا: مشاهد مفتاحية وتحليلها

1. مشهد البتر

يتجاوز المشهد البعد الجسدي إلى بعد رمزي البتر كعلامة على خيانة العالم، واغتصاب الحقوق، وموت الطفولة. هذه اللحظة كانت بمثابة الجرح الذي لا يندمل، وهي تهيّئ القارئ لكل ما سيأتي بعدها من مشاهد أليمة.

2. اللقاء مع الصحفية

لقاء يُخرج “نجمة” من صمتها ويمنحها صوتًا. يُظهر التداخل بين الواقعي والإنساني، بين التوثيق الصحفي والبوح الشخصي، ويُعيد الثقة المفقودة بالآخر.

3. لحظة الثورة

مشاركة “نجمة” ولو من الهامش في الثورة، تشير إلى أن الشخصيات المكسورة قادرة على الفعل والمساهمة، ولو بكلمة أو موقف، حتى لو لم تحمل لافتة في الشارع.

▪️خامسًا: تطوّر الشخصية

تمرّ “نجمة” بمراحل متعددة من التحول النفسي:

من الطفولة البريئة إلى الصدمة والعنف الجسدي.

من الخوف والانكفاء إلى نوع من المقاومة الصامتة عبر الحكي.

من فتاة منكفئة على جرحها إلى شخصية شاهدة على عصرها، تكتب وتشهد وتحكي.

هذه الرحلة لم تكن متصاعدة بشكل تقليدي، لكنها كانت موجعة وعميقة في آن، حيث يتقاطع الجسد المعطوب مع روح تبحث عن ظل شجرة في صحراء دامية.

▪️ سادسًا: مغزى النهاية

لم تكن نهاية الرواية مبهجة، لكنها لم تكن عبثية.

تركت الباب مفتوحًا على احتمالات، لكن ظلّ الوجع هو سيد الموقف.

لم تأتِ النهاية بحلّ، بل أبقت الجرح مفتوحًا لتذكّر القارئ أن ما جرى لم يُغلق بعد.

▪️ سابعًا: الرسائل الإنسانية

وحين تطفئ الرواية آخر أنفاسها، لا تنطفئ الأسئلة…

بل تتوهّج في وجه القارئ كما لو كانت تقول:

من يلتفت إلى المهمشين؟

من يوثق وجعهم؟

هل تنصفهم العدالة؟

وماذا تفعل الكلمة في وجه الرصاصة؟

▪️ ثامنًا: مقارنة مع رواية “الخائفون” (ديمة ونوس)

تُعتبر رواية الخائفون من الأعمال التي تناولت تجربة الحرب الأهلية السورية بشكل إنساني حاد، مركزة على تأثير العنف على النساء والضحايا، مشكّلة بذلك صوتًا للمهمشين والمقهورين. هنا تتشابه البتراء مع الخائفون في محورها الإنساني الذي يعكس تحول الضحية إلى صوت مقاوم، وإلى فاعل اجتماعي رغم كل الألم.

لكن الاختلاف يكمن في أن الخائفون تركز على البعد النفسي والداخلي للضحايا، وتغوص في أعماق الخوف والهلع والصدمة، بينما تدمج البتراء البعد الاجتماعي والسياسي بوضوح أكبر، حيث لا ينفصل الألم عن سياق الحرب الشامل الذي مزّق الوطن والإنسان معًا.

إذا كانت الخائفون مرثاة للذين يسقطون، فإن البتراء هي نشيد الذين يسقطون ويقومون ممزقين لكنهم ما زالوا يقومون.

رواية «البتراء» ليست نصًا مكتوبًا بالحبر، بل بالذاكرة والدم،

وهي تذكيرٌ قوي بأن الحكاية لا تُروى لمجرد البوح،

بل لتُدوَّن، وتُقاوم، وتُطالب بعدالة لم تأتِ بعد.

شكر وتقدير خاص للكاتب السوداني صلاح محمد الحسن القويضي،

الذي امتلك الجرأة لاختراق المسكوت عنه، وقدم لنا عملًا روائيًا إنسانيًا لا يُنسى،

جعل من “نجمة” صوتًا لكل من أُسكت، ومن الرواية صرخةً لن تنطفئ.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.