

حين يتحرك المجتمع بقيمه: قراءة في دلالات اليوم العالمي للتطوع
✍ صفاء الزين
📧: [email protected]
مرّ قبل يومين اليوم العالمي للتطوع، وهي مناسبة لا تتوقف عند حدود الاحتفالمناسبة لا تتوقف عند حدود الاحتفال، بل تتجاوزها إلى مساحة أعمق تُذكّر المجتمعات بقيمة الفعل الإنساني حين يُبنى على الإحساس بالمسؤولية تجاه الإنسان، أيًا كان موقعه وظرفه. وفي السودان، تبدو هذه المناسبة أكثر اتصالًا بالواقع، لأن ثقافة التعاون والمساندة تشكّل جزءًا أصيلًا من الوجدان العام، وتعود للظهور بقوة كلما واجه المجتمع تحديات تتطلب تماسكًا وفاعلية مشتركة.
التطوع في جوهره فعل يفتح الباب أمام سؤال بسيط وعميق في آن واحد: ماذا يمكن للفرد أن يقدّمه لمحيطه؟ الإجابة لا تحتاج موارد ضخمة ولا قدرات استثنائية، بل تتطلب رغبة صادقة في خدمة الآخرين، لأن المجتمع يبدأ في استعادة عافيته عندما يتحرك أفراده بوازع أخلاقي يسبق أي دافع آخر.
وعند النظر إلى التجربة السودانية خلال السنوات الماضية، تظهر بوضوح نماذج متعددة تؤكد حضور هذا الحس الجماعي. مبادرات شبابية تدير حملات الإغاثة، وأطباء وممرضون يعملون وسط ظروف معقدة، وأحياء تتشارك مواردها المحدودة، ومجموعات تنسيق محلية تبتكر حلولًا آنية لتجاوز الأزمات. وفي قلب هذه الصور برزت غرف الطوارئ بوصفها أحد أكثر أشكال التنظيم المجتمعي فعالية، لأنها جمعت بين سرعة الاستجابة، وتنظيم الجهد الشعبي، والقدرة على خلق شبكة دعم واسعة تعمل بدافع تطوعي خالص. وقد أظهرت هذه التجربة أن الإرادة حين تتنظم تصبح قادرة على حماية المجتمع في أصعب اللحظات.
اليوم العالمي للتطوع لا يعني تكريم الأفراد فقط، بل هو تذكير بأن المجتمعات التي تمنح التطوع مكانته الحقيقية تصبح أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحولات. فالفعل التطوعي لا يحل كل المشكلات، لكنه يعيد للناس ثقتهم في إمكانات مجتمعهم، ويمنحهم شعورًا بأنهم جزء من حل جماعي لا يترك أحدًا وحيدًا أمام الأزمات.
ومع تعاظم التحديات التي يمر بها السودان، يتأكد أن الاستثمار في ثقافة التطوع ضرورة لا ترفًا. فدعم المبادرات المحلية، وتوفير التدريب، وإتاحة المجال للشباب للتحرك، خطوات تمهّد لانتقال المجتمع من ردّ الفعل إلى الفعل المبادر. وعندما تتسع هذه الثقافة، تزداد قدرة المجتمع على حماية نسيجه الداخلي، ويقترب البناء الوطني من أرض أكثر ثباتًا.
وإذا كان التطوع قد أثبت فاعليته كاستجابة إنسانية عاجلة، فإن الرهان الأكبر يتمثل في الانتقال به من حالة المبادرة الموسمية إلى حالة المؤسسة المستدامة. المطلوب اليوم هو إدماج الفعل التطوعي في صلب التخطيط الوطني، عبر أطر قانونية وتنظيمية تحمي المتطوعين، وتضمن استمرارية المبادرات، وتربط الجهد الشعبي بالسياسات العامة دون أن تفقده روحه المستقلة. حينها فقط يتحول التطوع من طاقة إسعاف مؤقتة إلى رافعة استراتيجية لإعادة بناء المجتمع والدولة معًا، ويغدو جزءًا من معادلة التعافي الوطني الطويل، لا مجرد رد فعل على الأزمات.
في النهاية لا يُقاس التطوع بحجم الجهد فقط، وإنما بروح العطاء التي تحرّكه. والسودان يمتلك رصيدًا ضخمًا من هذه الروح، رصيدًا يحتاج إلى من يفعّله، ويحوّله من مبادرات متفرقة إلى طاقة اجتماعية قادرة على دفع المجتمع نحو أفق أوسع وأكثر أمانًا. فما يتحقق بخطوات صغيرة ومتواصلة قد يصبح حجر الأساس في نهضة كاملة يشعر الجميع أنهم شركاء في صناعتها.
المصدر: صحيفة التغيير
