أحمد بطران عبد القادر
من الحقائق المؤسفة التي تحتاج للبحث والتأمل ان السودان ذو الحضارات العميقة والتاريخ المشرق المجيد اضحي في تاريخه الحديث عقب الاستقلال بلد مأزوم وطارد لشعبه وغير مرحب بالاخر وسيظل هكذا لعقود قادمات ما لم يتحرر الضمير الوطني للنخب العسكرية والسياسية المسيطرة علي السلطة من الانكفاء علي الذات والتخلي عن روح الأنانية وتغليب المصالح الذاتية علي مصالح الجماهير ولئن تعمقنا في البحث والتنقيب فإننا نجد ان الازمة السودانية من القضايا المعقدة التي تتطلب فهمًا عميقًا من الباحث والمراقب لطبيعة مكونات الشعب السوداني ومزاجه ووجدانه الذي يميل الي التوحد والسلام ويعشق الحرية والذي تشكل عبر حقب تاريخية تليدة انتجت تجارب انسانية عميقة في التعايش السلمى والانفتاح علي الاخر رغم التباين في التنوع الثقافي والديني وحتي الجغرافي
وفي التاريخ الحديث منذ فجر الاستقلال شهد السودان العديد من الصراعات والنزاعات التي تخالف طبيعة تكوينه الناتجة بفعل مؤثرات كثيرة داخلية وخارجية مصنوعة من قوي ظلامية كان للنخب السياسية والعسكرية دور بالغ الخطورة فقد آثرت الاستئثار بالثروة والسلطة واقصاء الآخر وتهميشه ونشطت في إحداث اختلالات عميقة في إدارة الدولة لتتولد بيئة خصبة للصراعات العبثية فتمكنهم من تنفيذ اجندتهم واجندة القوى الدولية المساندة لهم والمتحالفة معهم والمرتبطة بهم طبقيا هذه السياسات الملتوية المعادية لوحدة السودان وامنه واستقراره أدت لتفاقم الصراعات فتدهورت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وساهمت في شرعنة التدخلات الخارجية الداعمة لمشاريع التقسيم والتشظي والخصومة والاحتراب بغية التمكن من نهب الثروات والموارد الطبيعية التي تذخر بها بلادنا في باطن الأرض وظاهرها والاخطر من ذلك كله مقاومة إرادة الشعبِ ومحاولة كسرها وحجرها من تحقيق امالها وتطلعاتها ورغبتها في التغيير والعيش بسلام في ظل نظام ديمقراطي تعددي يحترم انسانية الإنسان ويكرمه ويحقق له العيش بعدل وحرية كما كان في عهود سابقة للدولة الحديثة.
ولعل من أهم الأسباب التي قادت الي حالة الفشل في إدارة الدولة و معاناة الجماهير هو غياب المشروع الوطني الهادف للحفاظ علي وجود وبقاء الدولة السودانية حرة مستقلة واعتماد بعض من النخب السياسية علي اسلوب العنف المسنود خارجيا كوسيلة لحسم الصراع وقد لعبت المؤسسة العسكرية المتحالفة مع هؤلاء المغامرين ادوارا مؤثرة في تمرير اجندة هؤلاء المغامرين وحسم الصراع لصالحهم في محطات كثيرة تقاطعت مع رغبة الشعب في التغيير نحو الأفضل وبفعل ذلك الفساد السياسي والاستبداد تمكنت فئات قليلة من تيارات يمينية رجعية متخلفة من السيطرة علي مفاصل السلطة في البلاد وصارت تعمل وفق مصالحها الطبقية التي تبني علي فلسفة الهيمنة والاستحواذ علي مقدرات البلاد واقصاء الاخر وتهميشه بل اكثر من ذلك تجريمه واتهامه بالعمالة والأرتزاق فغابت عن الاذهان قيمة الوطن ومفاهيم الوطنية وصار المناضل الشريف والوطني الغيور منبوذا ومحاصر ومطارد مصيره اما السجون والمعتقلات وبيوت الاشباح او الأبعاد قسريا الي المنافي البعيدة او اعتزال السياسة كليا والعيش في غربة داخل وطن يحترق.
ولئن تتبعنا تاريخنا الحديث بوجه الدقة نجد ان اول الانقلابات العسكرية نوفمبر ١٩٥٨م كان في ظاهره اشبه بعملية التسليم والتسلم بين حكومة رئيس الوزراء آنذاك السيد عبد الله خليل وبين قادة إنقلاب نوفمبر لكن رغم عن سلاسلة الإنقلاب وسلميته التي تم بها كانت تقف خلفه أيادي اثمة لها مارب في الإنقلاب علي الوضع الدستوري فقد انتهج نهجا سلطويا فاشيا قيد الحريات العامة والخاصة وحل الاحزاب والنقابات ودخل في مواجهة ساخنة مع الشعب وقواه الحية والحديثة انتهت بثورة اكتوبر المجيدة التي جسدت لثقافة الوعي بأهمية الديمقراطية وخطورة حكم العسكر الذي يكرس للاستبداد ويعتمد علي لغة العنف في معالجة القضايا الوطنية ويدير الاختلافات بفوهة البنادق.
ان مساهمة النخب في صناعة ودعم وتأييد الأنظمة المستبدة زادت من سطوة النظام الاستبدادي في بلادنا وزينت له قهره للشعب والسعي بعيدا عن مصالحه خصوصًا في ظل نظام الثلاثين من يونيو الإجرامي الذي كانت تقف خلفه جماعة الإخوان المسلمين المجرمة مما دفع الكثيرين من أبناء شعبنا لرفع السلاح في وجه الدولة خصوصا الاقاليم النائية (دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان) الاكثر شعورا بالحرمان والتهميش كما شجع الجنوبيين علي المطالبة بالانفصال والإصرار عليه وهذا الامر جعل البلاد تدور في دوامة حروب فلكية لا افق عادل لإيقافها او معالجتها.
لكن بفعل المقاومة الشعبية السلمية الضاغطة لطليعة التغيير الرافضة لهذا المشهد العبثي والمنظمة للاحتجاجات المتواصلة إضافة لرغبة النظام الشمولي في تحسين صورته والانحاء للعاصفة حتي لا تقتلعه يعمد هذا النظام الشمولي البائس الي التفاوض مع حملة السلاح للوصول لسلام زائف لا يلبي سوي تطلعات قادته في المشاركة في الحكم وتقاسم السلطة فيحدث سلام زائف يحمل في طياته اسباب ومسببات الانفجار متي ما شعرت ذات الاقاليم النائية بالظلم وفقدان الأمل في الإصلاح والتغيير الذي تقوده طلائع وطنية رافضة للظلم والاستبداد والذي يقوم علي دعامتي الحرية والوعي.
وهكذا عاش شعبنا في ظل الأنظمة المستبدة منذ مطلع الاستقلال تاريخ طويل من الحروب الدموية والحرمان من أبسط حقوقه في الحرية والحياة الكريمة مما أدى إلى تفاقم الفقر والتخلف والتأخر عن ركب الحضارة المعاصرة التي تفوقت علينا في كل شيء في الغذاء والدواء والتعليم والصحة ومستوي دخل الفرد ورفاهية المجتمع.
ان تطاول الازمة السودانية والحلول الارتجالية الغير صادقة التي تغلب مصالح النخب الحاكمة علي مصالح الجماهير ورغبتها في التعافي أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر والبطالة بل زادة من حدة خطاب الكراهية وبالمقابل القبضة الأمنية ليتفشي الظلم والمحسوبية وتسود لغة العنف وتهميش فئات واسعة من المجتمع السوداني وممارسة الظلم والمحسوبية ضدهم ليعيشوا حياة الرق و العبودية في وطنهم فيتخلف المجتمع وتنحط قيمه فتسوده ثقافة الثأرية والانتقام وتتزعزع ثقته في الآخر ويفقد القدرة علي المواجهة والتحدي لإشكالاته ولا يعرف اين تكمن مصالحه ولا كيف يحققها؟
ولعلنا ان اردنا إصلاحا لمجتمعاتنا ينبغي علينا اولا نبذ العنف بكافة اشكاله وانواعه و إدانة من اشعلوا الحروب الدموية والثارات القبلية والتحرر من خطاب الكراهية بتقوية عرى الوحدة و أواصر الايخاء بين كافة مكونات شعبنا الاجتماعية والثقافية والدينية وقبول الآخر بعلاته واصلاحها بالثقافة والتثقف وتشجيع لغة الحوار والتفاهم وتغليب مصلحة الوطن علي ما سواها
كما علينا تفعيل واحياء الرغبة الوجدانية في الوحدة الناتجة عن قدم التصاهر والتمازج والتنقل السكاني واستغلالها في العيش بسلام ضمن النطاق الجغرافي للبلاد وإقامة نظام سياسي يرعى الحقوق ويحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه.
ثم تتويج ذلك بالتواثق علي كتابة دستور يمنح الحقوق للجميع بالمواطنة المتساوية الحقوق ويضمن الحريات العامة والخاصة بما يتوافق مع مزاج الشعب ورغبته في الديمقراطية التعددية والحكم المدني الرشيد الذي يحمي حقوق الإنسان كما كفلتها القوانين الدولية والاتفاقيات والمواثيق.
وليتحقق ذلك وغيره علينا العمل جميعا بروح وطنية صادقة علي إيقاف الحرب واستعادة مسار الثورة وتحقيق أهدافها في التحول المدني الديمقراطي وإقامة نظام سياسي نزيه عادل وشفاف يحترم انسانية الإنسان ويعمل علي راعيته ورفاهيته بما يتوافق مع الحضارة المعاصرة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة