حين يكتب المؤتمر الوطني رسالة إلى التاريخ ويطلب الغفران..

*قراءة تحليلية في دعوة سناء حمد لتحالف شيوعي إسلامي

أحمد عثمان جبريل

❝ عندما تبدأ الأفكار الكبرى بالتراجع، تصير المصالح الصغيرة أكثر قابلية للتحالف.❞
ميلان كونديرا

في سابقة نادرة، دعت القيادية بحزب المؤتمر الوطني، سناء حمد العوض، الحزب الشيوعي السوداني إلى تحالف “عاقل ووطني وعملي” تحت لافتة “لأجل الوطن”. المقال الذي حمل هذا العنوان، والمنشور على صفحتها بفيسبوك، بدا للوهلة الأولى مبادرة تصالحية رمزية، لكنه في عمقه يحمل تحولًا دلاليًا كبيرًا في طريقة تفكير تيار الإسلام السياسي في السودان، وخصوصًا في لحظته الراهنة: لحظة العزلة، والتحولات، وغياب السيطرة.

سناء حمد لم تكتب من موقع تنظيمي فارغ، بل بصفتها واحدة من العقول التي واكبت التجربة الإسلامية منذ مفترقاتها الأولى، وعرفت مداخل الدولة ودهاليزها وخارجها أيضًا..ولا تزال تتسنم موقع قيادي مهم وحساس في أجهزة الحزب، ولذلك، فإن إشادتها في مستهل المقال بالحزب الشيوعي، باعتباره أول حزب أيديولوجي منظم، تحرر من الطائفية، وامتلك خطابًا مختلفًا وثقافة إنتاجية، ليست مجرد لباقة سياسية، بل جزء من إعادة تقديم الخصم القديم، لا بوصفه عدوًا، بل بوصفه “الممكن الباقي”.. نعم هذه ليست إشادة مجانية؛ إنها تمهيد لطرح تصالحي، لكنها أيضًا اعتراف ضمني بتفوق خصمٍ ظل الإسلاميون يشيطنونه لعقود.

ورغم أهمية كل الفقرات التي تضمنها المقال، إلا أن العبارة الأكثر تعبيرًا عن لحظة التحول كانت قولها: “البلاد مقبلة على فوضى”. هذه ليست عبارة تحليل سياسي روتيني، بل إعلان صريح بأن الرهانات السابقة قد فشلت، وأن أدوات السيطرة التي طالما استُخدمت سواء بالحشد أو بالدولة العميقة أو حتى بالتحالفات العسكرية لم تعد ذات جدوى. وهي في ذاتها تشكل اعترافًا ضمنيًا بأن المشروع الإسلامي على الأقل كما صيغ في تجربة الإنقاذ لم يعد قابلاً للاستدعاء بنفس الشروط ولا بنفس القبول. عبارة “الفوضى المقبلة” تفتح بابًا للتموضع الجديد، لا من موقع الهجوم، بل من موقع الاستدراك. والاعتراف بالفوضى ليس دعوة للاستسلام، بل محاولة لإعادة ترتيب ما يمكن إنقاذه من مشهد سياسي ينهار تحت وطأة التعنت والاستقطاب والصراع المفتوح بين مراكز القوى.

هنا يمكن قراءة المقال كمحاولة للتأسيس لتحول سياسي أو قل أخلاقي داخل عقل التيار الإسلامي، ينقل التفكير من لغة السيطرة إلى لغة المشاركة، ومن مفهوم الانتصار العقائدي، إلى منطق البقاء السياسي.. وربما لهذا السبب، لم توجه سناء دعوتها لأي حزب آخر سوى الحزب الشيوعي، ليس لأن الحزب هو الأقرب، بل لأنه كان الأبعد دائمًا. التحالف مع الطائفية أو مع العسكر له سوابق، أما مع الشيوعيين فكان الأمر أقرب إلى المحرم سياسياً. ولذلك، فإن اختيار الحزب الشيوعي بالتحديد لم يكن عفو الخاطر، بل يحمل شحنة رمزية ثقيلة؛ فإذا تصالحنا مع هذا، فلن يعسر التصالح مع سواه، وما ذكرها (للقبب) إلا إشارة لتصالح الشيوعيين حتى مع أولياء الله الصالحين، كقفزة روحانية أعمق من الإسلاميين أنفسهم.

الدعوة التي قدمتها الكاتبة، وإن بدت مبادرة فردية، إلا أنها تعبّر عن تيار عريض داخل المؤتمر الوطني بدأ يدرك أن زمن “الحسم” قد ولى، وأن التحالفات التي قد تبدو انتحارية أيديولوجياً، قد تكون هي نفسها حبل النجاة الأخير وحان التمسك بها.. وأن الحزب الشيوعي، رغم ما عليه من تحفظات سياسية واجتماعية في ادبياتهم، يملك صورة أخلاقية في أذهان الكثيرين، كونه لم يكن جزءًا من بنية الفساد أو من منظومة القمع، بل كان هدفًا لها. وبالتالي، فإن الاقتراب منه قد يعيد تأهيل صورة الإسلاميين في المخيال الشعبي، ولو بصورة جزئية أو رمزية. بعبارة أخرى: “إذا غفر لك الحزب الشيوعي، فقد يغفر لك الشعب.”

لكن الرد الذي جاء من أحد قيادات الحزب الشيوعي، والذي أوردته الكاتبة نفسها، كان حاسمًا في بساطته: “صعب ناسنا يمشوا للخطوة دي.. لسه في مرارات.” وهو رد لا ينقصه الصدق، ولا الفهم العميق لثقل التاريخ. فالمرارات لا تُمحى بمجرد خطاب تصالحي أو اعتراف تنظيمي، خصوصًا حين تكون مثقلة بالدم، والملاحقات، والتشويه، والعزل السياسي. ومع ذلك، فإن مجرد إجراء هذا الحوار ولو بشكل شخصي يعني أن شيئًا ما بدأ يتحرك تحت السطح.

الأسئلة التي يطرحها المقال تتجاوز اللحظة السياسية الراهنة، لتطرق على باب الذاكرة السودانية: هل يمكن فعلاً أن يتصالح الإسلاميون والشيوعيون؟ هل تملك البلاد ترف هذه المصالحة؟ هل هي دعوة مخلصة أم مناورة ذكية؟.
الأرجح أن الأمر ليس بهذه الحدية.. المقال لا يحمل اعتذارًا صريحًا، ولا نقدًا ذاتيًا، لكنه بالتأكيد ليس خديعة. إنه خطاب صادر من موقع العارف بالمأزق، الباحث عن مخرج، ولو كان عبر الباب الضيق الذي لا يسلكه إلا من “تعالوا على ذواتهم” كما جاء في المقال.

في المحصلة، نحن أمام خطاب سياسي جديد، يتشكل تحت ضغط الانهيار، لا الرغبة .. نعم الانهيار، ويعيد تعريف الأولويات لا انطلاقًا من القيم، بل من سؤال البقاء. وفي السياسة، كما في الرواية، لا توجد نهايات مغلقة.. العدو اليوم قد يصبح الشاهد غدًا، وقد يتحول لاحقًا إلى شريك في صياغة ما تبقى من حكاية الوطن. تلك الحكاية التي يبدو أن الجميع رغم الاختلاف بدأ يشعر أنها تتجه نحو فصل أخير ما لم يتداركوها.

في مثل هذه اللحظات، لا تعود السياسة لعبة أيديولوجية، بل تصبح فضاءً للندم المؤجل والمراجعة الصامتة والتفاهم القسري، تحت عنوان واحد: البقاء. والبقاء، كما يقول التاريخ، ليس للأقوى، بل لمن يستطيع أن يتغير.
وإذا كانت السياسة كما قال مكيافيللي هي فن الممكن، فإن التاريخ كتب اليوم: المؤتمر الوطني يختبر “فن المستحيل”.. أملاً في النجاة . إنا لله ياخ.. الله غالب

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.