اخبار السودان

قد يعودُ العقلُ إلى الحبيبة !

صلاح ابراهيم عبي

 

و الله ، الذي أقامنا على هذه الأرض الكريمة ، كانت صديقتي ، جارتي بل حبيبتي ، كانت تعيش فِيّ دماً ونبضاً وذاكرةً، وسطورا .

ألهمتني خلال طفولتي ودراستي الأكاديمية ، فمن أجلها كتبتُ الكثير من مقالات الرأي ، وصرتُ نجماً في الرياضيات أما الجغرافيا فهي مادةٌ للتسلية والتبختر بين الرفاق .

هي يا سادتي بنتُ عصابةٍ من الجيران الذين لا يعترفون بالألقاب والجدران التي تحدهم، فكلُ كبيرٍ هو عمٌ وخالٌ إن لم يكن أباً أو أما ، خالاً أو شقيقة ، كانوا لا يتنابذون ، فأهملتهم العوائل استناداً لطمأنينةٍ أهليةٍ وثقةٍ في أن الله حاميهم من فتن الزمان .

لكنه الإنفجار  _ غير العظيم _ الذي حول البلاد _ فجأةً _ إلى مستوطنةٍ للكراهية ومستنقعاً لناموسةٍ تفرخ في اليوم ألف فيروسٍ وجراثيم كثيرة . إنفجارٌ صاحبته مفرداتٌ قبيحة مُغلفةٍ بعباراتٍ ((حديثة متطورة )) على الرغم من انقراضها قبل تحرير البلاد . ولعل الوصف الأخير هو السبب _ تحريرَ البلاد _ الرئيسُ في ذلك الإنفجار ، فالبلاد تم (( إعلانُ )) استقلالها ولم يتم تحريرُها ، وخضع السكان لقانونٍ أجنبيٍ صاغه رجلٌ أبيض مُعادٍ لدين سكان البلاد ، قانونٌ لا يمت لهم ولأخلاقهم بِصلة ، فارتدوا الأزياء الباريسية البراقة المُهداة إليهم من الحاكم فيما يتصبب عرق المَزارع و (( البِلدات )) على جباههم . رقصوا (( الجيرك والسامبا )) وأرجلهم حافية إلا من (( سِفِنجة)) أو (( مركوبٍ )) مهترئ .

لذلك عندما حدث الإنفجار _ المُتَوقع _ كان الأعداء قد أعدوا خطتهم بعيدة المدى فيما السكان في غفلتهم ورقصاتهم (( الحديثة )) على إيقاعاتٍ وأنغامٍ تستمد قوتها من أوهام الانتماء إلى تراثٍ وقَيَمٍ ، وعسكريةٍ لم تُمتحن في حروبٍ وطنية في الحدود بل أظهرت عضلاتها في التصدي للمسيرات الشعبية ومهرجانات تخريج الدُفعات وجلالاتٍ تُمجدُ تاريخاً وهمياً كتبتهُ أناملُ مُرتجفة كانت تعرفُ أن منهجها سيتم تغييره على أيدي الخبراء التربويين المؤيدين (( الإنقلاب العسكري القادم )) …

يا سادتي ، كُلُ شئٍ في هذي البلاد كان مُرقعاً ومُخاطاً بعنوةٍ فوقانية طارئة وتفوقٍ مُغطى بجيرانها ، ومدفوعاً بوعودٍ بتوسيع رقعة البلاد واسترداد المجد الذي حققه الجيش ((القومي جداً )) عند مشاركته في عبور خط بارليف خلال (( انتصارات العاشر من اكتوبر )) هناك بعيداً عن الفاشر وطوكر ومروي . مجدٌ سمع عنه السوداني في إذاعات العالم لكن لم يكُ له صدىً في أرض الواقع المحلي ، فانكمشت المشاريع الزراعية ، وانتشر بين الناس الفخر بالعروبة وتسابقوا لبناء العمارات وسرقة المحاصيل وتحويلها إلى ذهبٍ وفضة هناك بعيداً في أسواقٍ لا نشتري منها خبزاً أو سعفاً للسقيفة …

كم أنتم قبيحون يا ساسةَ السودان عندما أمِلتُم قلوبكم نحو إقامة ((مجتمعٍ حديث)) مُستخدمين أسلوب القتل الجماعي و تنصيب (( عُمَدِ القبائل الوليدة )) و العقداء في الجيش و (( القوونات )) في أغنياتكم ، قبحيون كنتم _ و لا زلتم __ لأنكم تهرفون بألفاظ العهود الأوروبية التي تم تداولها خلال الحقبة السوداء من تاريخهم الدموي ، قبيحون لأنكم تتسابقون إلى الأسواق لشراء بدلة ((اللايف)) القادم في محطات الآخرين بعد أن أسهمتم ببطولة في تدمير محطات بلادكم ، قبيحون أنتم لأن لعنات الأمهات والأصدقاء و رفاق الأحزاب تُلاحقكم عندما تنطقون بِ ((بل بس)) و (( كنسلو )) وهذا كوز علينا أن ندوسو دوس …

اليوم ، تلك التي أحببتُها صارت تقاتلُ قبيلتي ، تبحث عني لتقتلني لأني قريبٌ لمسلحٍ شارك في القتال الجاري حالياً في مدينتنا ، ويبدو أنها نسيت أن الجغرافيا _ التي أنا سيدها _ لا تساعدها في دعم زعمها ، فالمدينة التي التقينا فيها خلال الطفولة ليست هي المدينة ذاتها يجري القتال حولها ، فمدينة طفولتنا كانت تحفها الملائكة والجيران والأخلاق ، أما المدينة التي نتقاتل حولها اليوم هي مدينة أشباحٍ لا تنبح فيها الكلاب ، مدينةٌ من حجرٍ وحرور ، لذلك تجدين أنني قد تخليتُ عن المدينتين ، الأولى لأنك لستِ فيها ، والأخرى لأنها صارت ميداناً للقتال ، كما أنني لا أجرؤ على قتل جارتي ، ولا أقبل أن تقتلني ، فتفٍ للمدينة التي لا ترعى حبنا ولا تتذكر أن مدرستنا تفوقت على كل المدارس في عامٍ من الأعوام الدراسية ففرحت الأحياء كلها لأن لكلِ حيٍ نصيبٌ من الفرح بنجاح المدرسة التي ينتمي لها إبنهم أو بنتهم! نعم فقد كنا أبناء جميع السكان وبنات كل مديري ومديرات المدارس ، لكن أطفال اليوم وبفضلٍ وتبلدٍ من ساستنا أصبحوا أبناء قبائل وأقاليم ، عدنا إلى الجاهلية الأولى بفخرٍ ونفخاتٍ فارغة إلا من زفير ، والوصف الذي صرنا نستحقه في غربتنا ولجوئنا وبجدارةٍ (( لاجئين ، يا حرام )) ، وأنت يا مُستمراً في القتال ألا تستحق عبارة ((كم أنت حقير)) لأنك تقتل الأرض بمن فيها ومافيها .

………………………………………..

كاتِبُها ، واحد إرتري آذاهُ المتقاتلون في بلاد طفولته ، السودان .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *