ماجد عرمان

كان الوراق، في ذاكرة الثقافة العربية، شبيها بما يسميه هايدغر الراعي الأول للوجود، ذاك الذي لا ينشيء المعنى من عدم، بل يستقبل حضوره المقبل، يصغي لخطوه الخفي، ويفسح في العالم مكانا لظهوره. لم يكن ناسخا يلوذ بدكان ضيق، بل عين تسهر على انكشاف الكلمة، ويد تمنح النص فرصة أخرى لعبور الزمن. مارس الورّاق أقدم صور اللوغُس، السماح للقول بأن يخرج من عتمة النسيان إلى ضوء الحضور.
لا نعثر في أسواق الورّاقين القديمة في بغداد ودمشق وقرطبة وفاس على تعريف دقيق لمفهوم اللوغس كما تناوله هيراقليطس أو الرواقيون أو فلاسفة الوجود. لم يكونوا أهل مصطلحات كبرى، ولا حراس نظريات. لكنهم، من حيث لا يشعرون، كانوا يمارسون اللوغس في صورته الأكثر أصالة، إتاحة الوجود للكلمة. يفتحون للمعنى فسحته، ويمنحونه مناسبة للعودة إلى الحضور.
فالورّاق، في لحظة نسخ أو تصحيح أو جمع، لم يكن يعيد إنتاج نص، بل يعيد ولادته. فالنسخ في سره العميق ليس تكرارا، بل ميلاد ثان، عبور جديد لحبر كاد أن يخبو. كان الوراق شاهدا على تحول الوجود وهو يتجسد في سطور، ووسيطا دقيقا بين عالم المعنى وعالم الناس. لا يدخل كتاب التاريخ إلا إذا مر بيده، ولا يغدو صالحا للعيش إلا إذا أعاده إلى نسيج التداول.
أما الجمع فلم يكن حشدا لمخطوطات متفرقة، بل تجميعا للذاكرة، لمواجهة ما يتناثر من حكمة البشر. ففي رفوفهم الصامتة تتجاور فلسفات اليونان مع علوم الهنود، وحكم الفرس مع رؤى المتصوفة، وشروح النحويين مع تأملات المتكلمين. بدا التجاور ترتيبا للمعنى قبل أن يكون ترتيبا للكتب، وكأن الوراقة هندسة دقيقة ترمم الذاكرة الإنسانية.
ولم تتوقف مهمة الورّاق عند الحفظ. بل امتدت إلى الخلق التأويلي. ففي حركة الترجمة الكبرى، لم يكن الورّاق ناسخا بل شريكا في الحدث، فالنص حين يخرج من لغته الأولى لا ينتقل وحسب، بل يعاد تشكيله، يمنح إمكانيات جديدة للعيش. الترجمة ليست نقلا بل تحرير ثان للوغس، وإنطاق جديد للكلمة. وبين قلم المترجم وإزميل الورّاق وُلدت نصوص كثيرة مرة أخرى، لتغدو جزءا من الذاكرة الكونية للمعنى.
كانت أسواق الورّاقين فضاءات تتجاور فيها الحقائق وتتدافع التأويلات. لم تكن الكتب سلعا صامتة، بل أحداثا وجودية يتداولها الناس كما يتداولون نسيم الفجر. لم تكن بطاقات هوية فكرية، بل طرائق في النظر ومقامات للوجود. كان السوق فضاء لممارسة الحرية العميقة، حرية أن تلمس المعرفة باليد.
في القراءة الهايدغرية، اللوغس ليس كلمة ولا خطابا، بل سماح للشيء بأن يظهر. وهذا ما فعله الورّاقون دون تنظير، سمحوا للنصوص أن تبقى، أن تستعاد، أن تواصل مسيرتها. فتحوا للقول فسحته، وللفكر حقه في أن يتحرك في عالم لا يكف عن طمس المعنى.
أن الورّاق القديم كان شخصية فلسفية، حتى لو لم يقصد ذلك. شخصا يناصر الصمت العميق الذي تنضج فيه الكلمة ببطء، ويؤمن بأن المعرفة تنقذ العالم لا بالصخب، بل بالكد الهادئ، بنفس الحبر وهو يتشكل حرفا بعد حرف.
فاللوغس عند الوراقين لم يكن شعارا ولا نظرية، بل عملا يوميا، حركة يد تقلب الصفحات، وعين تدقق في السطور، وصبر يتتبع خيط المعنى بين جملة وأخرى. وتلك كانت مشاركتهم الخفية في بناء الوعي الإنساني.
إن تاريخ الوراقة يكشف أن الكلمة ليست أداة صراع، بل ظلا للوجود، وأن الحقيقة لا تُفرض، بل تُتاح، وأن المعرفة لا تنهض بقدرتها إلا حين من يُنصت للحظة تجليها.
وحين نتأمل اليوم إرث الوراقين، ندرك أن اللوغس لم يكن فكرة يونانية فحسب، ولا مفهوما ميتافيزيقيا جامدا، بل مهنة للحياة مارسها أولئك الذين آمنوا بأن العالم لا يفهم إلا بأثر مكتوب، وأن الكلمة إذا منحت فرصتها تستطيع أن تغير الوجود.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.