حسن عبد الرضي الشيخ

“الله يطراه بالخير”… هكذا علّق الأخ العزيز والزميل النبيل محمد عثمان الضي في قروب جامعة الخرطوم، وهو يستعيد ذلك الموقف النبيل والتاريخي لرئيس الوزراء الانتقالي د. عبد الله حمدوك، عندما ضربت كارثة السيول والفيضانات البلاد في العام ٢٠٢٠. لم يتأخر، لم يختبئ خلف لجان الطوارئ الورقية، لم يلجأ إلى لغة المواربة السياسية، بل أعلنها صريحة مدوية:
“السودان بلد منكوب، ونناشد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إعلان حالة الكارثة الطبيعية والتدخل العاجل.”

هذا هو الفارق الجوهري بين من يرى في موقع المسؤولية خدمة للناس، ومن يراها فرصة للإنكار والمكابرة والنجاة السياسية على حساب الحقائق. لقد جسّد دكتور حمدوك في ذلك الموقف كما في غيره قِيَم الصراحة والصدق والمواجهة، ليس فقط مع العالم الخارجي، بل أولًا وأساسًا مع الشعب السوداني.

ومثله فعل رفاقه من قادة ثورة ديسمبر.
نذكر د. أكرم التوم، الذي واجه جائحة كورونا بقدر عالٍ من الشفافية، متحديًا الجهل المؤسسي والنظرة الأمنية لوزارة الصحة التي خلفها العهد البائد. لم يخشَ أكرم أن يقول إن المستشفيات ضعيفة، وإن النظام الصحي عاجز، وإننا بحاجة لدعم دولي ومجتمعي.
ود. إبراهيم البدوي، الذي لم يزخرف الواقع الاقتصادي، بل صارح الناس بمرارة الأرقام، وقال إن البلاد منهارة ماليًا، وأن الحل يتطلب التضحيات.
وكذلك المهندس خالد عمر يوسف، الذي ظل في كل مداخلة ومؤتمر يتحدث بلغة شعبه، دون رتوش أو عبارات تضليلية، ويدافع عن حق الناس في المعلومة كما يدافع عن حقهم في العلاج والكرامة.

هذا التيار من الصدق، لم يكن مجرد مواقف عابرة، بل ثقافة ثورية حقيقية تحترم المواطن وتراعي وعيه. في المقابل، يقف تيار آخر، من بقايا النظام السابق، الذين برعوا في طمس الحقيقة، حتى أصبحت النكتة الشعبية أصدق تعبير عن واقعنا.

تلك النكتة التي تتداولها وسائط التواصل، تسخر بمرارة من نكران الكيزان للكوارث الصحية. تحكي القصة عن رجل سوداني مصاب بالسكري، فقد أكثر من ٢٠ كيلو من وزنه، وكلما سأله أحدهم قال له:
“عامل رجيم، زولك ناكر السكري!”
وحينما نصحه أحد الأصدقاء بالفحص، غضب واعتبر ذلك إساءة.
حتى جاءه صديقه السعودي وقال له:
“يا زول، شكلك عندك AIDS!”
فذُعر المسكين، ومن لحظتها أصبح يُعلن للجميع:
“أنا عندي سكري… أنا عندي سكري!”

وهذا بالضبط حال الكيزان اليوم. بالأمس، كانوا ينكرون المجاعة، ويصفون الكوليرا بـ”الإسهالات المائية”، ويكذبون على الناس وهم يدفنون ضحاياهم بصمت. أما اليوم، وبعد أن أُثير الحديث عن احتمال استخدام أسلحة كيميائية، صاروا يصرخون فجأة:
“كوليرا، كوليرا!”
حتى دون أن يُسألوا!

هكذا يتجلى الفرق بين عهدين:

عهد الثورة الذي لم يعد فيه المسؤول “سيدًا” على المعلومات، بل خادمًا للشفافية والمصداقية.

وعهد الإنكار، حيث يدفن المسؤول رأسه في الرمال، ويطلب من الناس أن يصدقوا أن “الإسهالات المائية” ليست كوليرا، وأن الأطفال الذين يتساقطون في القرى والمخيمات “مصابون بالزكام”!

إن شهادة محمد عثمان الضي في حق عبد الله حمدوك، ليست مجرد وفاء لرجل رحل عن منصبه، بل هي تذكير لكل من يلي مسؤولية في هذا الوطن:
الناس لا يريدون المعجزات، بل الحقيقة. لا يطلبون إلا من يقول لهم:
“أنا عندي سكري”…
قبل أن يأتي من يقول لهم:
“عندكم AIDS”.

رحم الله زمن الصدق، ونسأل الله أن يكتب لنا عهدًا جديدًا تُقال فيه الحقيقة من المنصة قبل أن تُقال من النكتة.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.