في وداع رفيق العُمر: البروفسور عبدُالله أحمد جلاّب
د. سعاد تاج السر علي الشيخ
مازلت لا أستطيع أن أكتب يا عبدُالله، لم يحن وقت كتابتي عنك بعد ولا أدري متى يكون ذلك. هذه مجرّد شذرات هنا وهناك عما يجيش به الصدر بين الفينة والأخرى. كيف أرثيك في حزني السرمدي يا رفيق العمر وحبيب القلب عندما تصبح الكلمات جوفاء بلا معنى. لقد تعطّلت لغة الكلام برحيلك المفاجيء. وانا ادعو الله ان يرحمك وان يرحم روحك الطاهرة رحمة واسعة في عليائك في الخالدين تحفني كلماتك الحبيبة كأعظم ما يسعفني في التعبير عن ما يجيش بإعماقنا وصدرينا عندما كتبت لي تطمئنني في لحظة حزنٍ مررنا بها يوماً في مسيرتنا الزاخرة، حيث كتب تقول:
يا حبيبتي سعاد،
لنا ان نحمد الله ونشكره على كل ما وفقنا فيه من عظيم التوفيق… لنا ان نشكره على من رفع سيرتنا على مدى المعمورة في كل مكان ووسط من نعرفهم ومن لا نعرفهم فقد أصبحت سيرتنا محمودة ومشكورة.
لنا ان نشكره ان وفقنا ان نمد يدنا بالخير لكثير من عمل الخير. ولنا ان نحمده ونشكره ان اعطانا ثلاثة من البنين والبنات الذين نفخر بهم ونعتز بنجاحهم وخلقهم النبيل.
إن وقفة تأمل لكل ذلك رافعين ايادينا بالحمد والشكر تجعلنا نقف وقفة أخرى نسأله ان يوفقنا من جديد ان نواصل مشوارنا فيما تبقى لنا من ايام ان نقدم العلم النافع للناس وللاجيال القادمة وان نوزع الخير للمحتاج ولكل من يتوسم فينا الخير.
لنا ان نشد ايدينا مع بعض مثلما فعلنا من قبل وان نقدح عقولنا ففي تقديري إن الكثير ينتظرنا مادامت أيدينا مشدودة مع بعض ومادامت عقولنا وقلوبنا مع بعض.
اتمنى ان نفتح اعيننا وعقولنا وقلوبنا بعيدا عن الضيق والعثرات التي تواجهنا من وقت لآخر. لا تزال لنا القوة والمنعة والله معنا له الحمد وله الشكر.
ويبقى لك حبيبك، عبدُالله
كان ذلك قبل بضع سنوات من الأن، في خضم بعض مظاهر العنصرية التي تعج بها بعض المؤسسات ومظاهر الظلم الذي ما أنفك يلحق بنا هنا وهناك. وقد أدى ذلك لإصابتك بقرحة حادة أودعتك المستشفى لحين عندما توعكت في وعكتك الأولى وهرع الأنجال الأحباء أحمد وعزّة وشيراز عبدُالله أحمد جلاب، أتوا من كل فجٍ عميق وجاءوا لأريزونا ليكونوا بجانبك عندما كنت في المستشفى. وقد عافاك الله حينها بحمده وشكره وعندما جئنا للبيت، كنت قد قرأت عليهم، وأنت مازلت في المستشفى، كلماتك العميقة تلك فسالت دموعهم وسالت دموعي، ثم اتخذ أحمد القرار وذهب وأحضر إطاراً أنيقاً وبروز خطابك المفعم بالمعاني التى هزّتهم عميقاً ظاهرها وباطنها. وكما تعلم، مازالت تلك اللوحة التي كتبتها أناملك الحزينة وقتها، أنامل الأديب الفذ الذي لم يهّزه الوجع والحُزن، مازالت تلك اللوحة الأنيقة في مكانها في غرفة نومنا تصبحنا وتمسينا.
الكثير يجيش بالصدر يا عبدُالله وأنا والأنجال نودع العام 1924 الذي رحلت فيه عنا جسداً ولكنك باقْ فينا روحاً. ليس في القلب والفؤاد فقط، ولكن حتى في البيت أنت مازلت هنا يا رفيقي، مكان جلوسك المفضّل في غرفة المعيشة، كتبك التي كنت ترتادها في كتاباتك الأخيرة التي لم تكتمل بعد، أوراقك العديدة المنظمة، اللابتوب، التليفون، والأي باد وكل وسائل التواصل الإجتماعي التي تخصك، نطارتك، ساعتك الإلكترونية والتقليدية، معدات الرياضة اليومية، كلها وأكثر مازالت موجودة وقابعة في ذات المكان لم تبرحه ولن أسمع لها أن تبرحه، ليس بعد. مكتبتنا القيمة التي تحتل حيزاً كبيراً في الطابق الثاني من البيت التي تزخر كل جدرانها حتى السقف بالكتب الزاخرة ما نفكت تسألني عنك كل يوم وساعة ودقيقة ولحظة. حتى مكان صلاتك، ومصلايتك المفضّلة والكرسي التي أصبحت تجلس عليه للصلاة بعد وعكتك الأخيرة، كلها في مكانها لم نحركها.
وإذا سألت عن الأنجال الأحباء، فهم بخير وعافية والحمدُ لله. كل يواصل عمله أو دراسته في شموخ رغم الحُزن الدفين، يواصلون معي الدعاء لك آناء الليل وأطراف النهار. في ذكرى ميلادك هذا الشهر، في الثاني عشر من ديسمبر، كان إحتفالنا خلاّقاً في الإسفير. فقد إختار كلُ منا فيديو أو صورة معك مع نبذة قصيرة عن المناسبة وأرسلناها لبعضنا البعض في قروب الأسرة واتساب الذي خلقته لنا وجمعتنا فيه في محبة ومودة وعلم ووئام وصلة رحم عميقة الجذور. بالطبع أصابنا الحزن مجدداً لأنك كنت تخطط أن يكون الإحتفال بعيد ميلادك في 2024 مناسبة للقاء للأسرة في منتجع سدونا في أريزنا بعيداً عن صخب المدينة. كم حزنا حزناً عميقاً أنك لم تعش طويلاً لتفيذ خطتك تلك، فاحتفلنا بك إسفيرياً في أبهى ما يكون الإحتفاء بحبيبنا. وقد كان ذاك أضعف الإيمان.
ألف رحمة ونور تغشى روحك الطاهرة. سأبقى والأنجال الأحباء على العهد ما حيينا. نم قرير العين وسلام لك في الخالدين. سيأتي وقت الكتابة عندما أتمكن من إجتياز هذا الحُزن، هذا الألم المفعم بالألم على الوطن الجريح الذي أفنيت شبابك وعمرك وهجرتك القسرية تسعى لتضميم جراحه في كتاباتك الراسخة كتباً ومقالات وشعراً، ومحاضرات، ومؤتمرات، وكل أوجه النضال من أجل عيون الوطن الذي لم تعش طويلاً لترى نهاية محنته.
أنتهز هذه السانحة لأتقدم بالشكر الجزيل والتقدير لكل الأحباب من الأهل والأصدقاء والزملاء من غمرونا، ومازالو، بحبهم وتواصلوا معزيين كتابةً، هاتفياً، أو شخصياً على كريم كلماتهم، رسائلهم، وحضورهم. ولكل زملائك الأعزاء من ظلوا يكتبون دون انقطاع في الأسافير ومحافل التواصل الإجتماعي معدديين مآثرك ورافعين سيرتك العطرة الطيبة على مدى المعمورة وفي كل الأوساط الثقافية والأكاديمية، الإجتماعية، والأسرية. جزاهم الله خيراً فقد خفّف ذلك عنا كثيراً.
المصدر: صحيفة الراكوبة