اخبار السودان

في نقد أيديولوجيا الهِشك بِشك

 

حاتم الياس

في زمن بعيد، قادتني الظروف إلى العمل في مؤسسة تجارية لفترة قصيرة، وهي من الفترات القليلة في حياتي التي عملت فيها بالوظيفة كمصدر رزق. فالوظيفة لا تنسجم بأي حال مع تركيبتي النفسية القلقة، المخاصمة لكل ما ينتمي إلى أي قاعدة أو نظم أو توجيهات. وهذا أمر سلبي بالطبع، ولا يمكن أن يشكل ميزة، إذ أن للوظيفة فوائد كبيرة، ولكن رحم الله امرأً عرف قدر قلقه.

في تلك الفترة، كانت المؤسسة تشهد نزاعات حادة بين المساهمين الكبار، وكان الموظفون هم الضحايا لهذه الصراعات، إذ خلقت نوعًا من الاستقطاب الحاد. فكان قربك من أحد المساهمين، أو مجرد أنه بادلك التحية، أو حتى وقوعك في دائرة المجاملات العادية والسؤال عن الأهل، كفيلًا بأن يجعلك في مرمى غضب وشكوك الطرف الآخر. وفي صباح اليوم التالي، قد تجد خطاب فصلك من العمل وتوجيهك إلى الخزنة لأخذ مستحقاتك.

كان هذا الجو، رغم توتره، لا يخلو من الفكاهة والطرافة. فصديقي عثمان، الشهير بـالزبون، ولصلته بشؤون الموظفين وقدرته الخاصة في الحصول على المعلومات، كان كلما غاب أحد الموظفين وسأله أحد عن سبب غيابه، يجيب مازحًا: “مع النسيم وأرسل سلامي وآلاف التحايا”. وكنا ندرك بعدها أنه راح في حق الله (أي فُصل من العمل).
قبل أن أكتب هذا المقال، لجأت إلى صديقي صلاح الأمين والفنوب (وهو راسخ العلم في شأن الغناء)، وسألتهم عن أصل هذا المقطع الغنائي، إلى أي أغنية سودانية ينتمي ولأي فنان؟ فلم أجد جوابًا. وعلى ذكر الغناء، طرأ لي وصف للحالة التي وصل إليها التعاطي السياسي السوداني، الذي انحدرت به هذه الحرب إلى قاع عجيب من السطحية، فوجدت من المناسب أن أطلق عليه أيديولوجيا الهِشك بِشك.
بحثت عن معناها، فقادني جوجل إلى مقال عن الرقص الشرقي في مجلة العاصمة الجديدة الإخبارية، يعرّف الهِشك بِشك بأنه مصطلح مصري له أصول لغوية فصيحة، حيث إن الهِشك تعبر عن الهز، أما البِشك فيجمع بين التسرع والارتجال. لذا، فإن الهِشك بِشك تعني الهز السريع والرقص المرتجل. صديقي (ط ن) وهو لايترك شاردة وواردة وجد أن أحد كبار داعمي الجيش ومن خلفية يسارية دائما مايدبج كتاباته بوصف الدعم السريع (بالفاشية) ويبدو أن الرجل في تناص سياسي مع بيانات المؤسسات اليسارية التي لطالما استخدمت هذا الوصف ولعله من ذاكرة الحركة اليسارية العالمية حين بحث (ط ن ) عن معنى الفاشية وجدها حالة ايدلوجية انتشرت وسط قطاعات الطبقة الوسطى للدول التي تعرضت للهزيمة في الحرب العالمية ومهدت لظهور النظم التوتالارية مثلما حدث في ايطاليا اي انها كانت وسيلة للطبقة الوسطى لإعادة توظيف الدكتاتوريات كحالة لإعادة تطبيب الكرامة الوطنية المجروحة برفع قيمة الدولة والجماعة الوطنية على نحو يكاد يلامس سقف اسطوري مرمز إلى أقصى حد للدولة والشعب والوطنية وفي حالتنا (الجيش) كمعادل للوطنية وهي ردة فعل انتابت الجميع في كيف هزمت ودحرت مجرد مليشيا الجيش في عدة معارك ليعاد بشكل لا شعوري وسط افندية هذه الطبقة الوسطى تكثيف ترميز الجيش لأقصى درجة ككيان وطني ومحايدة وفوق الطبقات والنقد ويعاد بناء سردية جماعية تحت لواء الكرامة ، أنها بالتأكيد الفاشية في أحد صورها (العالمثالثية )
وبنظرة سريعة وغير مكلفة حتى في بذل الجهد، ندرك أن هذه الحرب كانت أحد أكبر الفصول الهزلية المرتجلة التي قدمتها النخبة السودانية، حين اعتراها الارتباك وهي تشهد أول تهديد وجودي مفصلي لها. فقد خلفت هذه الحرب تهديدًا حقيقيًا لهذه النخبة، التي تبادلت عبر تاريخها إدارة السلطة، سواء كانت مدنية أم عسكرية.
لم يكن التغيير في واقع الأمر سوى تسويات جانبية للصراع، تتم داخل النادي الحضري لجماعة الأفندية السودانية، كلما انسد أفق استمرار النادي الطبقي السلطوي. وكان هذا الانسداد في أصله يعكس أزمة بنيوية في تركيبة طبقة الدولة بعد الاستعمار، التي تعاملت مع السلطة كمفهوم وممارسة كغنيمة استعمارية تم توريثها لجماعات النخب، سواء كانت عسكرية أم مدنية.
لطالما كانت هناك أداتان لمعالجة أزمة الحكم في السودان:
1. الانتفاضة أو الثورة
2. الانقلاب العسكري، الذي يمنح التغيير غطاءً شكليًا، سواء عبر البيان العسكري المستولي على السلطة أو البيان اللاحق (العسكري أيضًا) الذي يعلن الانحياز للشعب.
في كل الأحوال، فإن عملية الفصل بين المدني والعسكري داخل هذه الطبقة ليست سوى حيلة؛ فكلاهما يتبادلان الأدوار داخل مهام التاريخ، بحسب طبيعة الصراع. وما بينهما، تأتي هبات شعبية تُسمى ثورات، لكنها تخضع لنفس شروط الفئات الاجتماعية التي تقود التغيير، وهو ما يحدد مداها وإمكانية نجاحها أو فشلها.
لنأخذ مثالًا الفترة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، حيث كانت الوسائط ممتلئة بكتابات نقدية معارضة للحكومة، لم تكن تبحث عن نموذج ثوري حقيقي، بل كانت محاولة لإظهار حالة النقاء والطهارة الثورية المتوهمة بأشهار نموذج مثالي لم يتحقق ولن يتحقق في وجه المخالفين وفي واقع الأمر كانت كل القصة هي محاولة حصار الفترة الإنتقالية وإفشالها . لإستدعاء الجيش للعودة فمعظم ذلك النقد كان بمثابة نداء خفيض وحار يتلوه في صمت اللاوعي لإستدعاء الجيش مرة أخرى للسلطة لضبط المجال المدني العام لأننا كمدنيبن فاشلين وخارج الإطار المرسوم للضبط والصرامة التي تدير دولة ، الضبط العنفي لاغيره ! وهو بمثابة اعتراف وإعلان فشل يمر عبر الصراخ والنقد يقول اننا كمدنيين غير جديرين بالسلطة ( في الحقيقة غير جديرين بإدارة التناقضات الاجتماعية وهناك قوى تستطيع لجمها لانحن) ونريد من الجيش أن يأتي لحسم الفوضى التي خلفها اقراننا .لذا لن تندهش من أن أغلب ثوريي الفترة الإنتقالية تحولوا لاحقاً إلى بلابسة ، الي جانب نقطة أخرى وهي أن النظم المدنية تبور فيها تسويق السٌلع النضالية كأحد أفضل منتوجات الراسمال الرمزي لطبقة الأفندية ونخبها .
كما تصوير لجان المقاومة وكأنها الحامل المقدس لرسالة الثورة، مما وفر لها حصانة ثورية وسياسية غير مستحقة، حالت دون ضبط وعيها بما يلائم مشروع التغيير. فليس النبل وحده يمكن أن يكون سندًا للتغيير، بل لابد من الوعي اللازم بأدواته وأهدافه.
ازدواجية التعامل مع الحرب والانتهاكات
من ناحية أخرى، تم توظيف انتهاكات الدعم السريع إعلاميًا بشكل منظم، بينما بدت انتهاكات الجيش وكأنها محصنة من النقد، رغم أن الحرب خلفت فظائع وأثارًا نفسية عميقة سترافق السودانيين لزمن طويل.
لا شك أن قيادة الدعم السريع مسؤولة عن انتهاكاتها، لكن الجيش أيضًا مسؤول عن انتهاكاته والمليشيات التي تقاتل معه. ومع ذلك، نجد أن القوى المدنية التي تدّعي الثورة جبنت عن الانحياز للدعم السريع، وفضلت الصمت، رغم أن الجنود في الميدان واجهوا قوى الهيمنة التاريخية ببسالة.
أعود إلى صديقي عثمان، الذي جاءت سيرته في مقدمة المقال، ونحن نشد الرحال إلى نيروبي لنشهد حدثًا تاريخيًا فارقًا في المشهد السوداني. فالحكومة التي ستُعلن هناك ليست مجرد سلطة لتقديم الخدمات الضرورية، بل ستكون جزءًا من إعادة صياغة المشهد السياسي السوداني.

إن سياسات بورتسودان تمثل تعبيرًا حقيقيًا عن سياسة فصل عنصري، حيث تم إقصاء شريحة كبيرة من السودانيين من المشاركة السياسية والخدمات العامة. أما الحكومة الجديدة، فستكون خطورتها الحقيقية في أنها ستعمل على تثقيف الحرب، أي إعادة صياغتها ضمن مشروع سياسي جديد، يتجاوز الصراع على الشرعية إلى طرح سؤال أعمق:

ما هي الوسيلة التي نبلغ بها العدالة ونغلق باب المظالم، الذي يجلب (الحروب والحكومات؟)
الأن تلاحق خاطري مقطع عثمان من تلك الذاكرة البعيدة لنقول للبورت وطاقمها السياسي ومناصريها من البلابسة الأجلاء ومن يظن أن هنالك امل في أن تتحمل قيادتها مسؤوليتها الأخلاقية والسياسة تجاه مشروع وطني سوداني لن يتم تأميمه بعد من جماعة الاسلام السياسي والمؤتمر الوطني الذي أصبح واقع الأمر الآن حالة جماعية أبوابها مفتوحة على كل أطراف نخب الأفندية السياسية في حالة حربائية جماعية نقول من باب الوداع …. ومع النسيم وأهدي ليك الاف التحايا

إذًا، إلى نيروبي، ومع النسيم، وأهدي ليك آلاف التحايا.

 

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *