عبدالماجد سعيد عرمان

في عامٍ من أعوام الاغتراب الباطني، وتحديدًا في مارس 2018، في مدينة كولومبس أوهايو، ساقني القدر إلى لقاء لم يكن عابرًا، بل كأنه جزءٌ من ترتيبٍ قديم في كتابٍ لم يُكتب بعد.

كان اللقاء بالشاعر والأديب بشرى الفاضل، وجاءت الخطوة الأولى عبر صديقٍ مشترك، الفنان التشكيليّ جميل الروح عبد الواحد وراق، كأنّه أعدّ اللوحة ثم دعاني لأراها بنفسي.

بشرى الفاضل لم يكن في نظري مجرد شاعر، بل كان، منذ أن سمعت قصائده للمرة الأولى، أحد أولئك الذين يوسّعون داخلك، ويجعلونك ترى ما لم تكن تراه، تسمع ما لم يكن يُقال، وتشعر كأنك نُقلت فجأة من زحمة العالم إلى مهبّ المعنى.

كنتُ مأخوذًا، على وجه الخصوص، بتلك القصيدة التي غنّاها الراحل مصطفى سيد أحمد: حلوة عينيك

“نفسي في داخلك أعاين، أروي روحي وأشوف منابك”

وكنت أردد في داخلي دومًا ذلك المقطع الذي بدا لي، مع الأيام، أشبه بمفتاحٍ سريّ لأبواب الوجدان:

حلوه عينيك زي صحابي
عنيدة كيف تشبه شريحتين من شبابي
زي عنبٍ طُوِّلَ معتّقٍ في الخوابي
وسمحة زي ما تقول ضيوفًا دقّوا بابي
فرحي بيهم سال ملأ حتى الكبابي

تلك الأبيات لم تكن شعرًا فقط، بل كانت بالنسبة لي لغةً أخرى للقرابة، للضوء، لمجيء الأحباب في مساءٍ لا يُنتظر فيه أحد.
كانت تمثل لي تجسيدًا صافيًا لمحبّة الأهل، وحرارة البيت حين تمتلئ الأكواب بضحك الأحباب.
إنها صورة حسّية لفرحٍ لا يُعلَن، لكنه يُغنيك عن السؤال.

حين جلستُ مع بشرى، لم يكن الحوار مجرد حديثٍ عن الشعر، بل كان أشبه بفتح نوافذ تطل على زمنٍ نحمله جميعًا في قلوبنا… زمن مصطفى، وزمن القصائد التي جاءت مثل مراكب نجاة وسط الطوفان.

تحدثنا طويلًا… ليس بالزمن، ولكن بالوجدان.
كان الحوار بيننا مزيجًا من الشجن والحنين، فيه شيء من اعتراف المتأخر، ودهشة المتلقي، وسكينة العارف.

بشرى كان يتكلم كما لو أن الكلمات لا تخرج من فمه، بل تتساقط من ذاكرته… وكأن الشِعر في داخله ليس صنعة، بل تنفّس.
وحين تحدّث عن تجربته مع مصطفى سيد أحمد، شعرت أنني لا أستمع إلى قصة، بل إلى مقطع موسيقيّ خفيّ، إلى زمنٍ آخر يُقال الآن في هيئة صوت.

في تلك اللحظة، أدركتُ أن اللقاءات العميقة لا تحدُث كثيرًا في الحياة، لكنها حين تأتي، تمنحك عمرًا إضافيًّا، لا يُقاس بالسنوات، بل بما تبقّى منك بعد أن تُغادر المكان…

نواصل…

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.