اخبار السودان

في محراب عزام، جدل العلمانية ومرايا السياسة السودانية:قراءة نقدية  لحديث مريم الصادق المهدي

في محراب عزام، جدل العلمانية ومرايا السياسة السودانية:
قراءة نقدية  لحديث مريم الصادق المهدي

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

في رحاب برنامج مع عزام، أطلت مريم الصادق المهدي، القيادية البارزة في حزب الأمة القومي، لتطرح رؤيتها حول الدولة المدنية والعلمانية في السودان. بأسلوبها الرصين ولغتها الواضحة، قدمت تحليلًا تاريخيًا واجتماعيًا لمفهوم العلمانية، معتبرةً إياه ترجمةً غير دقيقة لـ(Secularism)، ومؤكدةً على خصوصية التجربة السودانية التي تتسم بالتدين العميق.
لا شك أن مريم الصادق المهدي، بتاريخها السياسي وخبرتها الواسعة، تستحق كل تقدير واحترام. لكن هذا لا يمنع من الوقوف بتمعن أمام بعض النقاط التي أثارتها، والتي تستدعي نقاشًا أوسع، خاصةً في ظل التعقيدات التي يشهدها المشهد السياسي السوداني.

بدايةً، عندما نتحدث عن الدولة الحديثة، لا يمكننا اختزالها في مجرد حدود وشعب وحكومة ودستور، كما فعلت مريم الصادق المهدي. الدولة الحديثة هي أيضًا دولة مؤسسات، دولة تحترم حقوق الإنسان، دولة تحمي الحريات الفردية والجماعية. إنها دولة تقوم على سيادة القانون، وتضمن المساواة بين جميع مواطنيها، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفكرية.
أما مفهوم العلمانية، في حديث مريم الصادق المهدي، فهو مفهوم أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما تم تصويره. إن ترجمة (Secularism) إلى (العلمانية) قد تكون غير دقيقة، لكنها أصبحت شائعة في السياق السوداني.
العلمانية، في جوهرها، ليست مجرد آلية لفصل الدين عن الدولة، بل هي رؤية للعالم تقوم على أساس العقلانية والنقد والتعددية. إنها رؤية ترى أن المجال العام هو مجال للمواطنين المتساوين، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفكرية.

لقد أشارت مريم الصادق المهدي إلى أن العلمانية نشأت في أوروبا كرد فعل على سلطة الكنيسة. هذا صحيح، لكن العلمانية ليست مجرد رد فعل سلبي، بل هي رؤية إيجابية للعالم تقوم على أساس العقلانية والتعددية. كما قارنت بين التجربة الأوروبية والتجربة الإسلامية في المدينة المنورة، مشيرةً إلى اختلافهما. لكن هذا الاختلاف لا يعني أن التجربة الإسلامية لا يمكن أن تستفيد من بعض مبادئ العلمانية، مثل التسامح والتعايش. فوثيقة المدينة نفسها، هي وثيقة تنظم التعايش بين أصحاب الديانات المختلفة.

النقطة التي حظيت باهتمام خاص في حديث مريم الصادق المهدي هي مقارنتها بين العلمانية الفرنسية والأمريكية. لقد أوضحت أن العلمانية الفرنسية تقوم على فصل صارم للدين عن الدولة والمجتمع، مع نظرة سلبية للدين وتقييد مظاهره العلنية، حتى أنها استشهدت بتجربتها الشخصية في البرلمان الفرنسي. في المقابل، ترى مريم الصادق المهدي أن العلمانية في أمريكا تقوم على أساس فصل مؤسسي للدين عن الدولة بهدف حماية الدين من تدخلات الدولة، مع السماح الكامل بممارسة الشعائر الدينية والرموز الدينية في المجتمع، معتبرةً أن تأسيس أمريكا كان على يد متدينين يرون سمو الدين. وهذا التمييز يسلط الضوء على أن تطبيق مبادئ تنظيم العلاقة بين الدين والدولة يمكن أن يتخذ أشكالًا متنوعة بناءً على السياقات التاريخية والثقافية.

إضافة إلى النموذجين الفرنسي والأمريكي، هناك نماذج أخرى للعلمانية في دول مثل تركيا (مع تاريخ من العلمانية القوية ولكن المتغيرة)، والهند (مع علمانية تحترم جميع الأديان)، ودول أوروبية أخرى. استعراض وجيز لهذه النماذج يوضح أن العلمانية ليست قالبًا واحدًا، بل هي مفهوم متعدد الأوجه يمكن تكييفه ليناسب سياقات مختلفة.

لقد أكدت مريم الصادق المهدي على تدين المجتمع السوداني، مشيرةً إلى أن السودانيين، سواء كانوا أغلبية مسلمة أو أقلية مسيحية أو من يعتنقون ديانات أفريقية تقليدية، يتميزون بتدين عميق ومتجذر في ثقافتهم وهويتهم. وهذا التدين العميق يجب أن يُنظر إليه كقيمة إيجابية يمكن أن تثري المجتمع وتعزز قيمه الأخلاقية والروحية. ومع ذلك، فإن هذا التدين المتنوع يجب أن يكون مصدرًا للتسامح والتعددية والتعايش السلمي بين مختلف المعتقدات، لا مصدرًا للإقصاء والتهميش أو فرض رؤية دينية واحدة على الدولة والمجتمع. فالدولة الحديثة، وإن كانت تعترف بالدور الهام للدين في حياة الأفراد والمجتمع، يجب أن تظل محايدة تجاه جميع المعتقدات، ضامنةً حرية الدين والمعتقد للجميع على قدم المساواة.
في هذا السياق، يبرز سؤال جوهري هل يتعارض الدين الإسلامي نفسه مع حرية الدين والمعتقد للجميع، أو مع المساواة أمام القانون، أو مع بناء مجتمع متسامح ومتطور؟ إن القرآن الكريم، الذي يؤمن به المسلمون بأنه كلام الله، يحمل في طياته قيمًا عظيمة تدعو إلى السلام والعدل والحرية. فالمشكلة لا تكمن في جوهر الدين الإسلامي، بل فيمن يوظفونه لخدمة أجنداتهم ومصالحهم الخاصة، متجاهلين قيمه السمحة. فمفاهيم مثل الحرية والسلام والعدالة، بل وحتى فكرة إبعاد العسكر عن السلطة (العسكر للثكنات)، يمكن استلهامها من النصوص الإسلامية. فالآية الكريمة ‘وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم’ لم تأتِ بصيغة الإكراه (فيكم أي غصباً عنكم)، بل جاءت بـ (منكم)، ما يمكن فهمه في السياق المعاصر على أنه اختيار حر عبر الانتخابات والديمقراطية، التي هي جوهر الشورى في الإسلام. إن الإسلام غني بمفاهيم العدالة والسلام، ولا توجد حرية أسمى من ‘لا إله إلا الله’ التي تحرر الإنسان من كل عبودية إلا لله وحده.

يمكن التطرق إلى الأسباب التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تجعل مفهوم العلمانية مثيرًا للجدل في السودان . قد يشمل ذلك تجارب الحكم الديني السابقة، أو المخاوف من تهميش الدين، أو سوء الفهم للمفهوم نفسه.

ومع ذلك، فإن تناول الدكتورة مريم الصادق المهدي، وهي شخصية سياسية مخضرمة ونائبة لرئيس حزب له ثقله في المشهد السوداني، لمفهوم العلمانية بتلك السطحية والاختزالية يُعد أمرًا بالغ الأهمية ويستدعي وقفة نقدية أعمق. فكونها في موقع قيادي، يُتوقع منها تقديم تحليل مُستنير ومُعمق لمفهوم بهذه الحساسية والأهمية في بناء الدولة الحديثة. إن اختزالها للعلمانية في مجرد ترجمة غير دقيقة لـ “Secularism” وتجاهل التنوع الهائل في تطبيقاتها ونماذجها المختلفة، يُظهر قصورًا في فهم المفهوم أو على الأقل تبسيطًا مُخلًا به.
الأكثر إشكالًا هو ربط الدكتورة مريم للعلمانية بالفهم السائد لدى قطاعات من الجمهور، الذي قد يخلط بينها وبين الإلحاد أو الكفر. هذا الربط من قِبل شخصية سياسية فاعلة في المجال العام يُعد بمثابة كارثة فكرية وسياسية. فبدلاً من أن تسعى، من خلال موقعها وتأثيرها، إلى تغيير هذا الفهم المغلوط وتقديم تعريفات واضحة ومُستنيرة للعلمانية، فإنها تبدو وكأنها تجاري هذا الفهم السطحي. إن دور السياسي المستنير يقتضي قيادة الرأي العام نحو مفاهيم أكثر دقة وعمقًا، لا الرضوخ للأفكار الشائعة غير المبنية على فهم حقيقي.
علاوة على ذلك، فإن اختيار الدكتورة مريم لنموذجين محددين للعلمانية ( الفرنسي والأمريكي) وتركيزها على جوانب معينة فيهما لتأكيد فكرتها، يمثل تحيزًا إيجابيًا واضحًا. فمن خلال تضييق نطاق المقارنة وحصرها في هذين النموذجين، وتجاهل النماذج الأخرى الأكثر مرونة وتوافقًا مع السياقات الدينية والثقافية المختلفة (مثل النموذج الهندي أو بعض التجارب الأوروبية)، فإنها تقدم صورة غير كاملة ومشوهة للعلمانية. هذا الانتقاء المتحيز يهدف بوضوح إلى تعزيز فكرتها المسبقة عن استحالة تطبيق العلمانية في سياق سوداني متدين.
إن رفض العلمانية من قِبل بعض السياسيين السودانيين، انطلاقًا من مجرد رفض شعبي متصور، يكشف عن إشكاليات عميقة في العقل السياسي السوداني وفي ممارسة السياسة وفي بناء الدولة. فدور السياسي لا يقتصر على تلبية رغبات الجمهور الآنية، بل يتعداه إلى التفكير الاستراتيجي وتقديم رؤى مستقبلية مستنيرة تخدم مصلحة الوطن على المدى الطويل. إن بناء دولة حديثة وعادلة تتطلب تجاوز المفاهيم الخاطئة والشائعات، والعمل على بناء توافق وطني حول مبادئ أساسية تضمن حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم. إن مجرد الاستسلام لرفض شعبي ناتج عن سوء فهم لا يساهم في بناء دولة قوية ومستقرة.

أخيرًا، لا يمكننا تجاهل التناقض الذي يظهر في ممارسة حزب الأمة للعلمانية داخل أروقته من خلال فصل هيئة شؤون الأنصار عن الحزب السياسي، ورفضها في المجال العام. هذا التناقض يثير تساؤلات حول مدى استيعاب الحزب لمفهوم الدولة المدنية، الذي يفترض أن يكون شاملاً ومتسامحًا.

في الختام، يبقى حديث مريم الصادق المهدي مساهمة قيمة في النقاش الدائر حول مستقبل الدولة في السودان. لكن هذا النقاش يجب أن يتجاوز المفاهيم التقليدية، وأن يستند إلى فهم أعمق للعلمانية والدولة المدنية، مع الأخذ في الاعتبار التجارب الدولية المتنوعة والقيم الأصيلة للمجتمع السوداني. يجب أن يكون حوارًا يهدف إلى بناء دولة حديثة، تقوم على أساس المواطنة المتساوية وسيادة القانون، وتحترم التنوع الثقافي والديني الذي يميز المجتمع السوداني، ويفهم أن تنظيم العلاقة بين الدين والدولة يمكن أن يتخذ أشكالًا متعددة لتحقيق هذه الغايات، مستلهمين في ذلك قيم العدل والحرية والسلام التي تحملها مختلف مصادرنا الثقافية والروحية.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *