صلاح الباشا
كنت ذات مساء.. والدعوة كانت مفتوحة للمعلمين في ذلك الزمان بدار الإتحاد الإشتراكي (العملاق) كما يصفه دائماً (أب عاج) في خطبه العديدات .. كنت حاضراً في شتاء العام 1973م تحديداً في ليلة فنية ثقافية بمناسبة إنتهاء فعاليات عيد العلم في تلك الدار ، كنا طلاباً بالمساء بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ، وكانت مهنة التدريس الراقية هي الملاذ الذي لذنا به كي نقدم خدمة جميلة لوطننا ولكي نقوم بتأمين مصاريف السكن والإعاشة والدراسة الجامعية ( نحن أبناء الأقاليم) ، فكانت أجمل أربع سنوات من عمري عملت فيها معلماً في عدة مدارس بأم درمان ، وتأتي بيت المال الإبتدائية في مقدمتها، فقد كنا شلة طلاب ومعلمين ظريفة ومتوثبة ، في عز شبابنا ، وكان السودان عملاقاً ومتوثباً أيضاً ، كان الإقتصاد متوازناً بالقدر الذي كنا نستمتع فيه بالراتب الذي لا يتجاوز الثمانية والعشرين جنيهاً في الشهر فقط .. كنا نستمتع بكل مباهج التسلية والترفيه، نشاهد مباريات هلال جكسا وعلي قاقارين والدحيش وفوزي وزغبير من المساطب الجانبية ، ونلتقي بأهداف كمال عبدالوهاب وبشارة وبشري والفاضل سانتو وحمورية. كنا بتلك الماهية الكبيرة( ٢٨ جنيه) نرسل للوالدين في بركات بودمدني ما يعين علي مشاكل الحياة المتواضعة ، كما لا ننسي ليلاً متابعة كل أفلام سعاد حسني ( أخت القمر) في السينمات وفي مقدمتها ( خلي بالك من زوزو) في كوليزيوم الخرطوم وسينما البلو نايل بجوار داخليات البركس .. حيث لم يكن للشماشة وجودا بعد في قلب العاصمة. فكانت تلك الأمسية بدار الإتحاد الإشتراكي( وزارة الخارجية حاليا)وأب عاج ( قاعد) أمام الخلق.. ولا زلت أذكر طاقم من الوزراء والمسوؤلين وهم يصطفون في مقاعدهم، منهم من كان يرتدي الزي القومي كدكتور منصور خالد وزير الخارجية وأحمد عبدالحليم وزير الإعلام ، ومنهم من كان يرتدي السفاري كالمرحوم جعفر بخيت ومنهم من إكتفي بالقميص والبنطال كزين العابدين وابو القاسم محمد إبراهيم ، غير ان اللواء الباقر وقد كان النائب الأول للرئيس يرتدي ( الفل سوت) . كان المطربون الذين يؤدون الحفل هم المعلمون الفنانون لأن المناسبة كانت عيد التعليم ، فالمناسبة هي تعليمية بحتة ، ويحييها الفنانون المعلمون.. كان هناك محمد ميرغني.. عبدالقادر سالم.. صديق عباس.. علي ميرغني.. أبو داؤد الذي كان قد إنضم إلي قسم المسرح المدرسي بوزارة التربية وقتذاك .صعد عبدالعزيز علي خشبة المسرح والأوركسترا تستعد للوصلة ، هنا طلب الرئيس نميري( أب عاج) من عبدالعزيز أن يقول نكتة قبل الغناء ، ضحك عبدالعزيز و ( مسح بالمنديل علي صلعة رأسه ) ثم قال حاضر ياريس فقال : كان في واحد قلبو رهيف جداً ،عندو حنية أكثر من اللزوم، يبكي لأي سبب يؤثر عليه، يحزن إذا شاهد أحد أقربائه أو أصحابه مريضاً ، وفي مرة تم نقله للعمل في منطقة بعيدة خارج العاصمة، فودع أهله وسافر ، وكان يزورهم في الأعياد دائماً مثل عادة السودانيين ، وأثناء غيابه بعيداً عن أهله ، توفي والده ، فإحتار الناس كيف يوصلون له هذا الخبر ، وكانوا يخافون عليه من أن تحدث له كارثة إذا سمع بالوفاة ، وبدأ الناس يتشاورن خلال أيام المأتم ، فإتفقوا علي أن يرسلوا له تلغراف بالعودة فوراً إلي الخرطوم بقطار السبت القادم مثلاً ، وإتفقوا أيضاً أن يخبروه في محطة السكة الحديد بعد وصوله ، ولكن كيفية توصيل الخبر كانت أيضاً مشكلة قائمة ، فرصدوا جائزة قدرها خمسة جنهيات لمن يوصل له خبر الوفاة دون أن يتأثر أو تحدث له صدمة مميتة بمحطة السكة الحديد . وهنا كل الناس قد ( زاغوا) إلا شخص واحد كان خفيف الدم فإلتزم بتوصيل خبر الوفاة له في المحطة وبعدها يقبض الحافز، وفعلاً ذهب في إنتظاره ، وفور نزوله من القطار قال له : جاييي مالك من عملك إنشاء الله خير ؟؟ فرد عليه : والله ناس البيت ديل رسلوا لي إشارة عاجلة (تلغراف) للحضور وأنا الآن في قلق شديد علي الحاصل ، وهنا سأله : إنت آخر مرة شفت فيها أبوك متين ؟؟ فرد عليه: في عيد الضحية الماضي ، فقال له : تاني كان شفتو .. أحلق دقني دي !!ففهم الشاب الرسالة ولم يتاثر . وهنا إنفجر النميري من الضحك المتواصل وهو يدير وجهه ناحية جعفر بخيت .الله يرحمك يا أبوداؤد.وعبد العزيز في فن الغناء قد طرق معظم ألوانه ، فقد تغني لحقيبة الفن باغان ظلت مرتبطة به إرتباطاً وثيقاً حتي ظن الناس أنها صنعت خصيصاً له وليست بأغاني حقيبة ، وقد كان يؤديها بدرجة عالية من التطريب: مثل ، زهرة الروض الظليل .. غصن الرياض المايل.. فلق الصباح.. ياليل صباحك مالو … من أول نظرة .. لي زمان بنادي أنا للخديدو نادي .تغني عبدالعزيز لعدة شعراء ، تغني وكان ذلك الراحل المقيم الموسيقار برعي محمد دفع الله يخرج له الألحان الرائعات بتلك الموسيقي الجميلة التي تستنشق فيها عبير أنغام برعي ، وبرعي دفع الله كانت له طريقته الخاصة في تأليف اللحن ، وقد إرتبط عبدالعزيز مع برعي إرتباطاً فنياً وإبداعياً منذ منتصف الخمسينيات وحتي وفاته ، مثلما إرتبط به بشير عباس طويلاً أيضا قبل إلتقائه بالبلابل .تغني عبدالعزيز بالروائع الخالدات: هل أنت معي .. أنت لي.. أجراس المعبد.. تلك كانت بفصيح اللغة وكيف ننسي في مقدمة كل ذلك تلك المشهورة عربياً ويؤديها عدة مطربين عرب بطريقتهم ، إنها عروس الروض يا ذات الجناح ياحمامه ، وكيف ننسي ( من عمايل الحب ) وأغنية من زمان لطالب الطب وقتها الزين عباس عمارة ..ثم تلك الخفيفة التي طلبها عبدالعزيز بواسطة برعي دفع الله من شاعرها الأستاذ فضل الله محمد وهي ( في حب يا أخوانا أكتر من كده ؟ وفي كلمة غير أحبك أرددا؟ ) برغم أن الفنان محمد مسكين سبق أن تغني بها مسبقا ، غير أن برعي أقنع الطرفين فضل الله ومسكين ونجح في ذلك فسجلها أبوداؤد للإذاعة .اما الغناء الدارجي فكانت له درر غوالي: مساء الخير.. انا من شجوني باكيات عيوني.. ثم تلك الصامدة الجميلة ( نعيم الدنيا) التي يغرد بها المبدع علي اللحو ايضا.كان أبوداؤد يجيد غناء التواشيح ، بمثل إجادته للمدائح النبوية والترانيم الدينية التي تأتينا من وقت لآخر في صباحات السودان التي كانت مشرقة من راديو أم درمان . وهل ننسي تلك الرمية التراثية التي كم كان يبتدر بها الغناء في الأفراح :الطابق البوخهقام نداه يهتف..نام من الدوخةإيدو عاقباه..جدله مملوخهلمعالق الجوف..موسو مجلوخهياناس الله لي.أما كيف كانت تلك العلاقة التي أصبحت كالتوأمة بين البروفيسور الراحل علي المك وبين عبدالعزيز ، فلنترك علي المك بنفسه يحكيها لنا برشاقة قلمه العجيب كما ذكرنا حين كتب في كتابه بعد رحيل أبوداؤد :(( عرفت عبدالعزيز داؤد أول مرة عام 1958م وانا طالب بالجامعة ،ذهبنا إلي داره في الدناقلة شمال، عبدالماجد بشير الأحمدي( السفير فيما بعد ) وأنا، كان الوقت عصراً ، وفي إتحاد طلاب جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء ، وللرجل سمعة مدوية في التعليق وعدم الظهور في الموعد المضروب ( أي شرّار ) ، قال الأحمدي أنه يثق في بلدياته عبدالعزيز وفي كلمته ، الأحمدي من ناس بربر ، وكان بمدينته يفاخر ، كنت في شك من الأمر وكبير، أطل عبدالعزيز من الباب، رحب بنا ، قال: سأحضر لحفل الجامعة ، وبر بوعده وغني، ومنذ ذاك المساء توطدت صلتي به ، وصادقته بضعاً وعشرين سنة، لم نكن نفترق أثناءها إلا قليلاً ، عرفت زوجته وأبناءه واهله ، وكأني بعض أهله، وحين ماتت فٌلة وهي كلبة الأسرة ، حزنت عليها زوجته حزناً شديداً ، خاصة أن فلة قد ألفت دار عبدالعزيز جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت ، وكان عبدالعزيز قد أحس بحزن زوجته فناداها وقد إستبدت به روح الدعابة فقال لها : (يافوزية شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك . ) .. إنتهي حديث علي المك.ومن دعابات عبدالعزيزأن قابلته ذات مرة وهو خارج من الإذاعة إمرأتان وقد كانتا من المعجبات بفنه جداً وهو يعرف إحداهما دون أن يتذكر إسمها ، فأقبلت نحوه وحيته وقالت له أنا ما دار النعيم .. نسيتني وللا شنو يا عبدالعزيز ؟ وكانت الأخري ضخمة الجسم وتأخرت قليلاً إلي ان وصلت عبدالعزيز وسلمت عليه ، وأرادت دار النعيم أن تعرف أبوداؤد علي صاحبتها ، فأسرع عبدالعزيز قائلاً : عرفتها .. دي دار الرياضة.أبوداؤد كان زعيم المجاملات ، لا يكسف احداً ، يلبي طلب أصغر طفل عندما يطلب منه نكته أو مزحة أو حتي اغنية في أي موقع كان هو .وذات مرة كان المريخاب يقيمون حفل تأبين للقطب المريخي الكبير الفنان (علي أبو الجود) ، وبالطبع كان علي المك علي رأس هؤلاء .. فهو كما نعرف.. مريخابي علي السكين ، فهو أم درماني ومريخابي الإنتماء والوجدان و له في المريخيات باع طويل ، فقد كان معه ذات مساء في عربته عبدالعزيز ، فقال له نمشي نادي المريخ ، فاليوم حفل تأبين لعلي أبو الجود ، فوافق عبدالعزيز ، ليس للغناء ، ولكن متفرجاً علي الحفل ، وكان النادي يعج بكواكب فن غناء الحقيبة ، ولكن عندما رأي الجمهور جلوس أبوداؤد مع الحاضرين فقد طلبوا منه المشاركة رغم عدم إستعداده الفني من حيث الأوركسترا ، فلم يرفض ، بل نهض وصعد علي المسرح وطلب تزويده ( بالرق) وببعض كورس الشيالين ، ففعلوا ، فإبتدر الغناء بتلك الرمية:الجرحو نوسر بيغوّر في الضمير..فوق قلبي زاد الكيياناس الله لي .ثم بدا يشدو برائعة كرومة وأبو صلاح والجمهور يكاد ينفلت من الفرحة والهياج ، فكان ظهور تلك الأغنية علي طريقة أبوداؤد:يازهرة طيبك جاني ليلأقلق راحتي..وحار بي الدليلزاد وجدي ..نوم عيني اصبح قليللو مرّ نسيمكعلي الف ميلتخلي العالم طربا يميلزاد وجدي ..ونوم عيني أصبح قليلفخرجت من وقتذاك ( زهرة الروض الظليل) من سباتها العميق لتبدأ تنتشر من جديد مع صوت أبوداؤد الذي كم حلق بها كثيراً بخيالاتنا ، وخيال أهل السودان المحب للفن والطرب الأصيل لعقود طويلة من الزمان… ولأننا في حضرة ذكري أعظم مبدعينا ابو داؤد وعلي المك ، فإنني أختتم بكلمات الأخير ، كيف يصف لنا الرحيل ، رحيل عبدالعزيز .ونواصل ذلك في الحلقة الثالثة والاخيرة ؛؛
المصدر: صحيفة الراكوبة