تاج السر عثمان بابو
(1)
أشرنا سابقا إلى الذكرى ال ٢٠ لرحيل جون قرنق، في ظروف تزايد خطر تمزيق وحدة السودان، لمصلحة المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب، بهدف تصفية الثورة. ونهب ثروات البلاد والوجود على ساحل البحر الأحمر . كما اشرنا الى تراجع الحركة الشعبية عن شعار الوحدة الذي رفعه جون قرنق، كما هو جارى الآن في تحالف الحركة الشعبية شمال (الحلو) مع الدعم السريع الذي ارتكب جرائم الحرب كما في الإبادة الجماعية والعنف الجنسي والتطهير العرقي وغيرها، في الحكومة الموازية غير الشرعية، مع حكومة بورتسودان غير الشرعية، اللتين تطيلان أمد الحرب وتهدد أن وحدة البلاد.
ونعيد فيما يلي نشر المقال أدناه حول منظور جون قرنق للوحدة.
(2)
عندما اندلع التمرد في جنوب السودان في يونيو 1983م بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي شكلت الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة د.جون قرنق الذي اعلن أن هدف حركته هو تأسيس سودان موحد قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وعليه فإن هذه الحركة تختلف عن حركة أنانيا التي كانت تنادي بانفصال الجنوب. كان ذلك نقطة تحول حرجة في تطور الحركة القومية والوطنية في جنوب السودان وتعبيرا عن تحول نوعي جديد في أقسام من الحركة السياسية الجنوبية وفي المطالبة بوطن واحد يقوم على العدالة والمساواة.
صحيح انه قبل جون قرنق كان هناك قادة وسياسيون جنوبيون تمسكوا ودافعوا عن وحدة السودان مثل: وليم دينق وجوزيف قرنق..الخ. ولكن مايميز جون قرنق أنه حاول أن يؤصل للوحدة واستنبط مفاهيم ومصطلحات جديدة لذلك التأصيل.
فما هي تلك المفاهيم والمصطلحات؟.
استنبط جون قرنق مصطلحين هما: الواقع التاريخي أو التنوع التاريخي والتنوع المعاصر.
يرى جون قرنق أن الوحدة تقوم على موقعين هما التنوع التاريخي والتنوع المعاصر، وهذان التنوعان يمثلان عناصر تكويننا ولابد من تأسيس الوحدة عليهما.
فماهو المقصود بالتنوع التاريخي والمعاصر؟.
أولا: التنوع التاريخي يشكل الأساس الأول للوحدة، وينطلق جون قرنق من حقائق التاريخ حيث ورد اسم كوش أو السودان في الكتاب المقدس، ويشير إلى حضارات كوش(كرمة، نبتة، مروي)، والممالك المسيحية (نوباتيا، المقرة، علوة)، والممالك الإسلامية (السلطنة الزرقاء، سلطنة دارفور، مملكة تقلي،..الخ)، وبعدها جاء الحكم التركي المصري ثم المهدية، ثم الحكم الثنائي الانجليزي المصري، إلى أن نال السودان استقلاله في 1956م، وهذا ما اطلق عليه جون قرنق التنوع التاريخي ( جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد، تحرير وتقديم الواثق كمير، دار رؤية 2005م، ص 76).
أي أن جون قرنق يؤكد التاريخ المشترك لقبائل وشعوب السودان الموغل في القدم، باعتباره الأساس الصلد للوحدة والشرط الأساسي لتكوين الأمة، وأن هذا التنوع التاريخي يجب أن يكون جزءا من هويتنا.
يقول جون قرنق: ( يجب أن نكون فخورين بتاريخنا، ويجب أن ننقله لأولادنا، كما يجب تضمينه في المناهج التعليمية وتدريسه للطلاب، لكي ندرك ثقافتنا وثراء ماضينا(المصدر السابق، ص 76).
ثانيا: أما الشكل الآخر من التنوع فهو التنوع المعاصر، وهنا يرى جون قرنق أن السودان يتكون من قوميات متعددة، من مجموعات اثنية متعددة، اكثر من 100 لغة مختلفة ومن قبائل كثيرة(ص 76).
أي ان هناك تنوع قبلي و تنوع ديني (المسلمون، المسيحيون، واصحاب كريم المعتقدات الافريقية). وبالتالي، فإن هذا التنوع المعاصر (قوميا واثنيا ودينيا، يشكل جزءا منا، والتحدي الذي يواجهنا في السودان هو أن نصهر جميع عناصر التنوع التاريخي والمعاصر لكي ننشئ امة سودانية، نستحدث رابطة قومية تتجاوز هذه (المحليات) وتستفيد منها دون ان تنفي اي من هذه المكونات.
ويرى جون قرنق ( ان الوحدة التي نتحدث عنها، لابد ان تأخذ هذين المكونين لواقعنا بعين الاعتبار حتى نطور رابطة اجتماعية سياسية لها خصوصيتها، وتستند على هذين النوعين من التنوع، رابطة اجتماعية سياسية نشعر بأنها تضمنا جميعا، وحدة أفخر بالانتماء اليها، وافخر بالدفاع عنها، يجب أن أعترف بأنني لا أفخر بالوحدة التي خبرناها في الماضي، وهذا هو السبب الذي دفعنا التمرد ضدها، إذن نحن بحاجة الى وحدة جديدة، وحدة تشملنا كلنا بغض النظر عن العرق أو القبيلة أو الدين)(ص 7778).
وينتقد جون قرنق تصوير المشكلة وكانها(مشكلة الجنوب) الذي درج السياسيون والمراقبون على استخدامه، يعني ولو ضمنيا ان اهل الجنوب هم وحدهم أصحاب المشكلة، وهذا ليس صحيحا، فالسودانيون لهم مشاكل في كل مكان، في الغرب، في الشرق، في الوسط وفي اقصي الشمال)( ص 78 79).
يوضح جون قرنق هذه النقطة بقوله: ( انطلقنا بعيدا عن هذا الطرح وقلنا بأن السودان ملكنا كلنا بالتساوي واننا جميعا يجب أن نشترك في تقرير مصيره)(ص 80). ويرى ( أن الوحدة التي تقوم علي أسس قسرية ضيّقة تقود إلى الشوفينية الاثنية والدينية)(ص 80).
يواصل جون قرنق ويقول: ( نحن نقاتل من اجل وحدة بلادنا ونرى الوحدة شاملة للجميع، كل قوميات بلدنا من عرب وأفارقة، كل الأديان من إسلام ومسيحية ومعتقدات افريقية، حتى نستحدث رابطة اجتماعية سياسية سودانية علي وجه التحديد تنتفع منها الحضارات الأخري)(ص 81). ويرى جون قرنق أن الهوّية السودانية هي محصلة لتفاعل التنوع التاريخي والتنوع المعاصر مع الحضارات الأخري، يقول: ( نحن نحتاج لتمكن هذه الوحدة حتى تصبح دولة عظيمة وشعبا عظيما وحضارة عظيمة، وتتواصل مع الحضارات الأخري، ومع الشعوب الأخرى، خصوصا شعوب وادي النيل والتي تجمعنا معها روابط تاريخية منذ الأزل)(ص 82).
كما يشير جون قرنق الى قرارات المؤتمر الوطني الأول للحركة الشعبية الذي انعقد في الفترة:2 12/ابريل/1994م، والذي أكدت فيه الحركة وحدة البلاد، وبالتالي أصبحت الوحدة سياسة رسمية للحركة.
وخلاصة طرح جون قرنق للوحدة: فهو يرى أن الواجب هو خلق سودان ننتسب إليه كلنا، رابطة سياسية ننتمي إليها جميعا وندين لها بالولاء الكامل بغض النظر عن العرق أو الدين أو القبيلة او الجنس حتي تستطيع المرأة ان تساهم بفعّالية. هذا هو السودان الذي تهدف الحركة إلى إقامته ونحن نناشد الشعب السوداني أن يعي أن هذا هو اتجاه المستقبل(92).
وأخيرا، برحيل جون قرنق فقدت البلاد مفكرا وحدويا من الطراز الأول، ولكن تبقى أفكاره الوحدوية التي تشكل ركيزة قوية في معركة توحيد البلاد وبناء وطن موحد ديمقراطي يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
المصدر: صحيفة التغيير