اخبار السودان

في ذكرى تأسيس الحركة الشعبية شمال بين الفكرة النبيلة والخيبة السياسية المعقدة

زهير عثمان حمد

 

في مثل هذا اليوم، قبل اثنين وأربعين عاماً، انطلقت شرارة ثورةٍ كانت أكبر من بندقية، وأعمق من مجرد تمرد مسلح. انبثق جيش التحرير كصرخة في وجه الظلم التاريخي، وحمل على كتفيه مشروعًا وطنيًا جريئًا: السودان الجديد.

مشروعٌ لم يكن مجرد شعار، بل التزام بالدم، وولاء للشهداء، ووعدٌ بإعادة صياغة وطنٍ تمزقه الهويات، ويئنّ تحت وطأة الإقصاء.

 

لكن الذكرى اليوم ليست موضع احتفال. هي وقفة للمراجعة، وتأملٌ مرير في مشروعٍ انطلق من القيم وانتهى في المتاهة.

قرنق … والذين خانوه

نتذكر اليوم من حملوا الفكرة بصدق، وساروا نحو الموت وهم يحملون السودان في قلوبهم. في مقدمتهم د. جون قرنق دي مبيور، القائد الذي لم يهادن في المبدأ، ولم يساوم في الوطن.

رجلٌ حلم بسودانٍ لا يعلو فيه صوت على المواطنة، ولا تُقسّم فيه الحقوق

بميزان الدم أو الجهة أو القبيلة. كان يُدرك أن مشروع السودان الجديد لا يمكن أن يُبنى إلا فوق أنقاض السودان القديم، القائم على الظلم البنيوي.

 

لكنّ كثيرًا من الذين بقوا بعده، لم يحملوا فكرته، بل استثمروا دماءه. تحوّلوا من رفاق سلاح إلى طلاب سلطة، ومن دعاة مساواة إلى حماة امتيازات.

 

كيف سقط المشروع؟

لم يكن انحراف الحركة الشعبية شمال مجرد خطأ في الطريق. كان سقوطًا متدرجًا، بدأ يوم طغت الحسابات القبلية على الرؤية الوطنية، ويوم أصبحت القيادة حكرًا على نخبة تحكم باسم النضال بينما تعيش رفاهية مناقضة لواقع المهمشين.

 

تحولت الحركة من حاضنة للتنوع إلى دوائر مغلقة، وتحوّل خطابها من مشروعٍ وحدوي إلى سرديات ضيقة. تحالفت بعض القيادات مع من كانوا بالأمس خصوماً لمشروع السودان الجديد، وساهموا في إعادة إنتاج ذات الخطابات التي خرجوا لمحاربتها

الجهوية، الإقصاء، وشراء الولاء بالمال والسلاح.

 

السودان الجديد … من مشروع إلى مسرحية

في كل عام، تطفو على السطح بيانات تحمل شعارات “السودان الجديد”. توقيعات أنيقة، وصور مكثفة من تمجيد الذات، لكن الواقع يفضح المسافة بين القول والفعل. فأين السودان الجديد من المجازر التي صمتوا عنها؟

وأين المساواة من المحاصصات التي باركوها؟ أين الرفاق من ثورة الشباب التي تُخنق في الشوارع، ويُسفك دمها كل يوم؟

 

ما نراه اليوم ليس امتداداً لذلك الحلم الجميل، بل نسخة مزيفة، يختبئ خلفها ورثةٌ بلا مشروع، وزعماء بلا بوصلة.

 

ذكرى للتأمل لا للتمجيد

لا نريد أن نحول الذكرى إلى طقس باهت، ولا أن نغرق في الحنين لرموزٍ ماتت، بل أن نسأل بجرأة:

 

لماذا لم تنجح الحركة في بناء تنظيم ديمقراطي يحترم النقد والاختلاف؟

 

كيف تحولت من حركة مقاومة إلى لاعب في بورصة التحالفات؟

 

من الذي يملك الحق اليوم في الحديث باسم الشهداء؟ من وفى بالعهد، أم من خان الفكرة؟

 

أنا لست كافراً بالفكرة

في ذكرى تأسيس الحركة الشعبية شمال، لا أنحني لخطاباتٍ جوفاء، ولا أتبرأ من الحلم. أنا لست كافرًا بالفكرة، بل مُوقن أن السودان الجديد هو الطريق الوحيد للخلاص.

لكنني في المقابل، لا أستطيع أن أغضّ الطرف عن القيادات التي أفسدت التجربة، وخانت الدماء، وبدّدت فرصةً تاريخية لبناء وطنٍ يسع الجميع.

 

*الحلم ما زال حيًّا، لكن بغير هؤلاء .

 

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *