صفاء الزين


في حضرة الموت… غلّبنا الجدل

صفاء الزين

في أواخر أغسطس من العام الحالي شهدت منطقة ترسين بجبل مرة انهيارًا أرضيًا مروعًا أدى إلى اختفاء قرية بأكملها تحت التربة وسط تضارب كبير في الروايات حول عدد الضحايا بعض المصادر تحدثت عن اثنين فقط بينما رجّحت أخرى أن يكون العدد بالمئات وبين هذا وذاك طغى الجدل على الحزن وغابت لحظة التأمل في فداحة المأساة وما تكشفه من حال وعينا الجمعي.

في سفوح جبل مرة حيث تتقاطع الجغرافيا بجمالها القاسي مع هشاشة الوجود البشري انهارت التربة على قرية ترسين وابتلعت معها ملامح الحياة بيوت الطين ضحكات الأطفال خطوات الأمهات وصلوات الشيوخ اختفت القرية بأكملها كما لو أنها لم تكن وغابت عن خارطة المكان لكنها بقيت شاهدًا صارخًا على نوع آخر من الغياب غياب الوعي.

لم تمرّ الكارثة بصمت كثيرون تألموا نعم لكن ذلك لم يكن هو الصوت الأعلى الصوت الأعلى كان للجدل للسخرية للتشكيك لتعداد الموتى كما لو كانوا أرقامًا في ورقة إحصاء البعض قال المتوفون اثنان فقط آخرون قالوا بل المئات وبين هذا وذاك ضاع جوهر الكارثة صار النقاش يدور حول الأرقام لا حول الأرواح حول صحة الرواية لا حول وجع الحقيقة.

والمؤلم أن هذا ليس نتيجة سذاجة أو طيبة زائدة لا المسألة أعمق من ذلك ما عاد الغياب عن جوهر الألم مجرد سهو بل سلوك متعمد نابع من وعي جمعي أصبح سطحيًا متبلدًا مشغولًا بالقشور كثير من الناس صاروا لا يرون في المأساة إلا فرصة للحديث للظهور للتفاعل اللحظي دون إحساس حقيقي بالمسؤولية تجاه الفاجعة ذاتها.

صرنا مجتمعًا لا يرى في الكوارث سوى مادة للحديث لا لحظة للتوقف والانكسار نغرق في تفاصيل الأرقام وتضارب الروايات ويكفي مجرد الجدل حول عدد الضحايا في لحظة كهذه لنفهم إلى أي حد تسربت اللا إنسانية إلى سلوكنا وإلى خطابنا العام كيف صار النقاش يغطي على الفقد ويستبدل الرثاء بالغلاط ويحوّل الموت إلى مناسبة كلام لا مناسبة وجع.

ترسين لم تبتلعها الأرض وحدها بل كانت الفاجعة أوضح من أن تُنفى وأفدح من أن تُختزل في رقم أو تقدير الكارثة كانت هناك أمامنا واضحة صارخة لكننا اخترنا أن ننشغل عنها أن نهمّشها أن نقلل من قسوتها والآن لا بد أن نفيق لا بد أن نعيد ترتيب أولوياتنا لا بد أن نفهم أن المواقف الإنسانية أهم من أي رواية وأعمق من أي جدل لا بد أن نكف عن السطحية والتشكيك ونستعيد إحساسنا البسيط والبديهي بأن من مات إنسان وأن احترام موته واجب وأن الحزن عليه هو أول الطريق نحو استعادة أنفسنا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.