في تعرية سردية إشعال الحرب الكاذبة
المدنيون المتهمون “بهتانا بإشعالها”ً جمعوا البرهان وحميدتي في 8 أبريل حينما كان الفلول يتوعدون السودانيين بها !!
✍️ماهر أبوجوخ Mahir Abugoukh
منذ اندلاع حرب 15 أبريل 2023م فإن إحدى السمات الأساسية التي ظلت مرتبطة بها هو استغلال غياب المؤسسات الإعلامية المهنية لتدبيج روايات “جاهزة ومعلبة” تهدف لإدانة القوى السياسية والمدنية بداية من توصيف الحرب باعتبارها “انقلاب عسكري للدعم السريع وحلفاءه القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري” وإعادة تدوير عبارة الأستاذ بابكر فيصل “الإطاري أو الحرب” بإخراجها من سياقها لتصوير أن الحرب التي اندلعت في 15 أبريل وكأنما هي من تدبير القوى السياسية المدنية، أما الطرف الذي أشعلها إنفاذاً لوعيده في الإفطارات الرمضانية “هو من يصد العدوان ويحبط الانقلاب” !! في حين كانت الحقائق والوقائع وحتى النتائج تظهر النقيض الكامل بأن من اتهموا بإشعالها سعوا لمنع حدوثها ومن يزعمون خوضهم للحرب دفاعاً عن البلاد والعباد من عناصر الحزب المحلول في حقيقة “يقاتلون من أجل عودتهم إلى السلطة ولو على أشلاء ودماء ودموع السودانيين” !!
طرحت القوى المدنية منذ بداية الحرب سؤال مفتاحي حول الجهة “التي أطلقت الرصاصة الأولى” لكونها صاحبة المصلحة الأساسية، إلا أن إحدى الثغرات الأساسية التي اقتات منها “السرديات الكاذبة” هو التزام القوى المدنية وقياداتها واستعصامها بـ”الصمت” حول العديد من الوقائع والتفاصيل مخافة تأثير الإفصاح هذا بمساعيهم المبذولة لوقف الحرب، لكن يبدو أن هذا الموقف عدل الآن باللجوء إلى إخراج “المسكوت عنه وجعله علناً” لإظهار وإعلان الحقائق كاملة.
في هذا السياق نشرت صحيفة (ديسمبر) الأسبوعية في عددها رقم (12) الصادر يوم الخميس 24 يوليو 2025 معلى الصفحتين (13) و(14) تفاصيل اللقاء الذي جمع قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو يوم 8 أبريل 2023م أي قبل سبعة أيام من اندلاع الحرب في بيت داخل مزرعة مملوكة لرجل الأعمال معاوية البرير وهو شقيق الأمين العام لحزب الأمة القومي الواثق البرير في لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي بعد فترة طويلة من القطيعة والخلاف والتوتر.
تستحق المادة المذكورة التوقف في جزئيتين أساسيتين أولها إفصاحها عن مساعي وتفاصيل وجهود بذلها المدنيون المتهمون “بهتاناً” بإشعال الحرب بالسعي بين طرفيها لتجنب حدوثها حيث أثمر تحركهم هذا عن عقد اجتماع مباشر بين الغريمين لنزع فتيل التوتر، وهذا بدوره يقود لسؤال عكسي عما كان يفعله قيادات ومنسوبو الحزب المحلول الموجودين في السجن وخارجه وعناصرهم العسكرية وقادة مليشياتهم في الإفطارات الرمضانية ومنصاتهم الإعلامية ؟! ما قاموا به موجود ومبثوث في منصات التواصل الاجتماعي، ومؤكد أنهم لم يسعوا للتهدئة أو تجنب الحرب وإنما فعلياً مارسوا التعبئة والتجهيز للحرب ليس على المستوى العسكري فقط وإنما حتى بتجهيز السرديات الإعلامية المرتبطة بها. طبقاً لذلك وعليه فبإمكان الناس أن يعرفوا دون كثير عناء أو ادعاء “من سعي لتجنب الحرب ومن توعدهم به فالأفعال والأقوال مبذولة الآن على رؤوس الأشهاد وعلى العاقل أن تمييز”.
السودانيون لديهم تجربة في التعاطي مع الروايات والسرديات الكاذبة من جماعة الجبهة الإسلامية القومية خاصة بعد انقلاب 30 يونيو 1989م حينما أنكر العسكريون والمدنيون أي جود أي صلة تنظيمية تجمعهما سوياً رغم القرائن التي تظهر طغيان الوجود لكوادر وعناصر “الجبهة الإسلامية” ولم يفصح عن تلك الزيجة السرية إلا بعد المفاصلة حينما قال دكتور حسن الترابي عبارته المشهورة في العام 2000م حينما أفصح عن حوار بينه والبشير قبل تنفيذ الانقلاب قال فيه الترابي “قلت له خذني للسجن حبيساً وأذهب للقصر رئيساً” !!، وخلال هذه الحرب ووقائعها قد لا يحتاج الناس مفاصلة لاكتشاف الحقيقة بعدما تحدثت الإنسان وكتبت الأيادي ما اعتبره ينفي الاتهام فقاد لإثباته حول من أطلق الرصاصة الأولى.
صحيح أن تلك الوقائع المعلنة والمرتبطة ببداية الحرب تفضح سرديات اندلاعها الكاذبة التي رُوج لها لإخفاء هوية من تورط في إشعالها لكنها تفتح باب المقارنة بين موقفين أحدهما سعي لتجنبها قبل حدوثها وثاني حرض وتوعد بإشعالها، وحتى متابعة التطور المستقبلي لهذين الموقفين بين من ينادي بوقفها والمصر والمتمسك باستمرارها وهذا يقودنا للنظر في التصورات النهائية الكلية لكل طرف حول مستقبل البلاد ما بين تيار ينادي باستعادة وتأسيس حكم مدني ديمقراطي وطرف ثاني تقوم رؤيته على “شرعنة الحكم الشمولي عبر استفتاء لتفويض شخصية عسكرية لإدارة البلاد” ثم إقامة انتخابات صورية مسيطر عليها محسومة النتائج تتيح العودة إلى الحكم مجددا بمشاركة “كومبارس” سياسي “متوالي” يقتصر دوره على ممارسة “المحلل” لهذا المشهد.
لعل ما ورد في حوار الهارب من العدالة الدولية أحمد هارون لـ(رويترز) الذي نُشر يوم الجمعة الماضية حديث مباشر لتصورات إنهاء المشهد حسب تصور الحزب المحلول الممسك بزمام الأمور في بورتسودان والذي تتهرب أطراف كثيرة منخرطة في الحرب ومساندة لبورتسودان في الإجابة عنه، حيث رسم هارون صورة المشهد السياسي بعد الحرب حسب تصورهم التي تقوم على “شمولية تتأسس على ذات معادلة النظام السابق رئاسة لقيادة للجيش وحكم للحزب المحلول في المستويات كلها”.
الجزئية الثانية التي تستحق التوقف في الجزء المنشور بصحيفة (ديسمبر) حول لقاء البرهان وحميدتي في 8 أبريل 2023م تتمثل في تلخيص حميدتي بحضور البرهان على المدنيين الثلاثة المنظمين للقاء وهم رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي بابكر فيصل والأمين العام لحزب الأمة القومي الواثق البرير وعضو المكتب التنفيذي بالحرية والتغيير وعضو لجنة الاتصال السياسي لقوى الاتفاق الإطاري طه عثمان إسحاق ما توصلا إليه في اجتماعهما الانفرادي الذي استمر لأكثر من ساعة تم دون حضور المدنيين الثلاثة.
أهم نقطة وردت هي إبداء حميدتي قلقله وتخوفه من وجود الطائرات الحربية المصرية وأطقمها في مطار مروي ومطالبته من البرهان في إطار إجراءات تقليل الاحتقان أن يوجه بمغادرة أطقم وطائرات المصريين مطار مروي، وحينما تعذر البرهان بصعوبة القيام بهذا الأمر بشكل فوري، فإن حميدتي أبلغه بتوجه قوات من الدعم السريع لمروي كإجراء احترازي وبقائها إلى حين مغادرة العناصر العسكرية المصرية على أن تبقي بعدها قوة محدودة في مطار مروي تتولى حراسة الطائرات الحربية إلى حين مغادرتها وعودتها إلى بلادها، وقتها لم يعترض أو يتحفظ أو يستدرك البرهان لم قاله حميدتي في هذه النقطة تحديداً وهذا يقودنا للمعرفة المسبقة لقائد الجيش بتحرك الدعم السريع صوب مروي وعدم اعتراضه أو تحفظه بل موافقته وهذا الأمر يشرح أحداثاً لاحقة بالتحرك العلني للدعم السريع وعدم اعتراض الجيش لقواته والاجابة بسيطة “تمت هذه الخطوة بناء على موافقة قائد الجيش نفسه” !!
إن إفصاح المدنيين عن بعض الوقائع التي كانوا شهوداً ومشاركين لن تسهم فقط في التوثيق والخروج من حالة الصمت والاكتفاء بالدفاع بكشف جانب من الوقائع وإنما حماية التاريخ من التزييف والتزوير والتحريف خاصة لحدث كبير كإشعال حرب 15 أبريل واندلاعها وما تلاها من آثار ونتائج، وهو ما يقود لفضح سرديات كاذبة تأسست عليها افتراضات وتخمينات “أكثر تضليلاً وكذباً” حتى اختلط المشهد وزاد ارتباكه “فصُديق الكاذب الكذوب وتكذيب الصادق الصدوق” وبعض مشاهد هذا الارتباك من نشاهده الآن في بلادنا وفي مختلف وسائل الإعلام من “بكاء الثعالب على فرائس قتلتها وتأكلها فتستقر في بطنها”، إذ يسهم هذا السرد بالكشف عن السرديات والافتراضات والتخمينات الكاذبة والمضللة التي انتشرت وتمددت طيلة فترة الحرب لفضح وكشف زيف دموع الثعلب على فرائس آثار دمها في مخالبه وأنيابه !!
الأحد 27 يوليو 2025م
المصدر: صحيفة التغيير