بكري الصائغ

اليوم الجمعة ٥/ سبتمبر الحالي تجي الذكري الخمسين عام على محاولة انقلاب المقدم/ حسن حسين، والتي وقعت في يوم الجمعة ٥/ سبتمبر ١٩٧٥، ودخلت تاريخ الانقلابات العسكرية كاول محاولة انقلاب اسلامي في البلاد، هذه المحاولة كانت وبكل المقاييس وعلي لسان الجنرالات الذين عاصروا وقتها هذه المحاولة ، انها تعتبر من أغرب واعجب الانقلابات التي وقعت علي الاطلاق في هذا البلد المنكوب بالانقلابات من أغرب واعجب الانقلابات التي وقعت علي الاطلاق في هذا البلد المنكوب بالانقلابات منذ عام ١٩٥٥(تمرد حامية توريت) وحتي محاولة الانقلاب التي وقعت قبل ايام قليلة في شهر اغسطس الماضي ٢٠٢٥، وتم اعتقال مخططيها بكراوي واحمد هارون، بل وان الكثيرين من اهل السودان مازالوا حتي اليوم غير مصدقين ان تكون الانقلابات سهلة وممكن وقوعها بهذا الشكل (السبهللي) كما انقلاب حسن حسين!!

تقول احداث ووقائع الانقلاب تمامآ كما وقعت في يوم الجمعة ٥/ سبتمبر ١٩٧٥: في صباح يوم الجمعة 5 سبتمبر عام 1975، توجه المقدم/ حسن حسين عثمان وهو علي ظهر دبابة ومعه جندي واحد فقط بخلاف سائق الدبابة الي امدرمان قاصدآ مبني الاذاعة ليلقي بيان انقلابه العسكري رقم واحد، ودخل مبني الاذاعة بدبابته العتيقة، وهناك تحت تهديد السلاح قدم المذيع/ كمال محمد الطيب رسالة للمواطنين لسماع نبأ هام، وعلي غير ما هو متوقع أو بدون مقدمات، استيقظ المواطنين في صباح هذا اليوم علي موسيقي المارشات العسكرية، وبعدها استمعوا الي بيان المقدم/ حسن حسين الذي علن فيه الإستيلاء علي السلطة، وكان أكثر ما شد انتباة المواطنين في البيان واثار استغرابهم ، حل جهاز( توتو كورة )، وهو نظام مراهنات علي مباريات كرة القدم تبنته وزارة الشباب والرياضة وقتها، ظهر لاحقآ، ان البيان الذي اذاعه المقدم حسن حسين لم يكن هو البيان الاصلي المعد في الخطة، ففي غمرة الاستعجال وضيق الوقت نسي المقدم حسن ان ياخذ البيان وتركه في منزله، وعندما وصل الي الاذاعة في امدرمان اكتشف الامر، فأعد بيان اخر علي عجل اثناء وجوده في الاستوديو، وهو ما سمعه الناس!!

قيل وقتها، ان البيان الرئيسي إشتمل علي قرارين مهمين، أحدهما التشكيل الوزاري الجديد برئاسة الدكتور/ حسن الترابي، والدكتور/ عون الشريف، والاب/ فليب غبوش ودفع الله الحاج يوسف كوزير للخارجية، أما القرار الثاني، فقد تم فيه تغيير اسم جمهورية السودان الديقراطية إلي (جمهورية السودان الاسلامية الديمقراطية الشعبية)، وجاء في القرار الثاني ايضآ، حل الاتحاد الاشتراكي، وإغلاق البارات، والاندية الرياضية، والملاهي، بعد ان قرأ حسن بيانه العسكري، خرج من الأذاعة تاركآ خلفه الدبابة الوحيدة والجندي وحيدا يحرس مبني الاذاعة!!

جاء في احداث ذلك اليوم، ان الضابطين شامبي وحماد الإحمير (وهما من رفقاء حسن حسين في محاولة الانقلاب) ومعهما ثلاثة جنود، جاءوا الي الاذاعة، وأخذوا الدبابة الوحيدة من قلب فناء الاذاعة، وذهبوا بها إلى سجن كوبر لإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين السياسيين، وتمكنوا بالفعل من إطلاق سراح بعضهم، في وقت لاحق من نفس اليوم، وبصورة عاجلة للغاية، اعلن حسن حسين اطلاق الحريات العامة، واكد على مبدأ حرية الصحافة، واستقلال القضاء، وحرمة الجامعات.

من غرائب المعلومات التي وردت عن محاولة الانقلاب، ان الانقلابيين لم يلجأوا قبل انقلابهم الي عقد إجتماعات مغلقة او في أماكن نائية حرصآ علي سلامتهم وتامين انقلابهم، ولكنهم وبعيدآ عن اعين الاستخبارات العسكرية كانوا يجتمعون جهارآ نهارآ في ميادين عامة، وبوجة الخصوص في الحديقة الواقعة جنوب القصر الجمهوري (ساحة الشهداء)، لم تكن المحاولة الانقلابية بحاجة الي جهد خارق من قبل ضباط وجنود القوات المسلحة لتطوقها وإخمادها بسهولة، فقد أمكن سحقها بكل بساطة بعد ساعات قليلة من إذاعة البيان العسكري رقم واحد، فقد دخل قائد الانقلاب المقدم/ حسن حسين قبيل فشل انقلابه في مشاكل كبيرة مع ضباط القيادة العامة الذين اعربوا صراحة عن رأيهم في محاولة الانقلاب وانه غير مقبول شكلا ومضمونا، ولا يوافقونه علي ما قام به، وانهم كرفقاء سلاح لن يشتركوا معه فيه حتي وان نجح الانقلاب ، القادة العسكريين الكبار سخروا بشدة من طريقة اعداد محاولة الانقلاب وتنفيذها، ووصفوها ب(انقلاب اولاد الكشافة )!!، ووجهوا نقد حاد وبصورة جارحة لصيغة البيان العسكري الاول وانه هزيل وغير مقنع للمواطنين.

تطور النقاش الحاد بينهم وتعالت الاصوات والتهديدات المصحوبة بالتشنج ، وكادت ان تنتقل الي مرحلة التماسك بالايادي، عندها وفي ظل هذا الجو المتوتر سحب الملازم/ كمال محمد أحمد مسدسه الحربي وصوبه نحو المقدم/ حسن حسين في محاولة لاغتياله، واصابته الرصاصة اصابة بليغة تم على إثرها اعتقال الجريح حسن حسين ونقله الي المستشفي العسكري للعلاج تحت حراسه امنية مشددة، بعدها تطورت الاحداث سريعآ بصورة متلاحقة، فقد اتجهت قوات من الضباط والجنود برئاسة الرائد/ ابوالقاسم محمد ابراهيم إلى الإذاعة، ودخلها بدون مقاومة لانه اصلآ لم يكن هناك من يقاوم ، وأذاع أبو القاسم بيانا أعلن فيه دحر الحركة الانقلابية وقبرها، ومن طرائف الاحداث وقتها، ان أن المذيع الراحل الدكتور/ أبوبكر عوض سارع بارتداء الزي العسكري وتسلح ببندقية لنصرة انقلاب حسن حسين، وتم اعتقاله بدون مقاومة، ويقال إن المذيع أبوبكر كان ضابط بالكلية الحربية وفصل منها.

اما عن الرئيس جعفر النميري (وقتها) كان قد هرب سرآ من منزله فور سماعه خبر الانقلاب، ولم يعرف احد له مكان حتي اقرب الناس اليه، وبعد فشل محاولة الانقلاب وسماعه باصابة قائد المحاولة الانقلابية، فجأة سمع الناس صوته فيما بعد من إذاعة أمدرمان ، وراح يشيد بيقظة الشعب والجيش وقال: “ان ماحدث يثير الدروس والعبر، ويستوجب الوقوف عنده، فقد هزمنا الطائفية في عقر دارها بالجزيرة آبا، وهزمنا الشيوعية وإنقلاب ١٩/ يوليو ودحرنا احداث شعبان في جامعة الخرطوم”.

بعد هدوء الاحوال في الخرطوم، تم بكل سهولة اعتقال الضباط والجنود الذين قاموا بمحاولة الانقلاب ، وقدموا للمحاكمة العاجلة، وكانت المحاكمات في مدينة عطبرة وصدرت الاحكام السريعة (كالعادة) باعدامهم، أخذوهم بعد صدور الاحكامات إلى ساحة الموت في منطقة خلوية اسمها (وادي الحمار )، جميع الذين صدرت ضدهم الاعدامات تلقوا الموت بشجاعة وبسالة، بل ان الملازم أول/ عبد الرحمن شامبي استطاع أن ينتزع بندقية أحد الجنود بالقوة في محاولة منه قتل جلاديه، لكن البندقية كانت خالية من الذخيرة!!، والذين تم إعدامهم هم: بالإضافة لحسن حسين: ١/ الرائد/ حامد فتح الله، ٢/ النقيب/ محمد محمود التوم، ٣/ الملازم أول/ عبد الرحمن شامبي نواي، ٤/ الملازم أول/ حماد الإحيمر، ٥/الملازم أول طيار/ القاسم محمد هارون، ٦/ عباس برشم، وكان من طلاب جامعة الخرطوم ومحركاً لأحداث شعبان، بالإضافة إلى ستة عشر آخرين من الرتب الأخرى… اما عن مولانا/ عبد الرحمن إدريس الذي كان شريكاً أصيلا مع حسن حسين في الإعداد والتخطيط ، عندما أحس بفشل الانقلاب آثر الهرب واختفي عن الانظار، وظلت وسائل الإعلام بصورة دائمة تدعو الناس لاعتقاله، والقاضي الهارب (عبد الرحمن إدريس) او هكذا أسموه لم يعد ثانية إلى أرض الوطن إلاّ مع المصالحة الوطنية حيث عينه النميري أميناً مناوباً للاتحاد الاشتراكي.

أسباب فشل الانقلاب يمكن تحديدها فيما يلي: (أ)/ باستثناء المقدم/ حسن حسين، والحكمدار/ الطيب أحمد حسين، فإن كل العناصر التي شاركت في التنفيذ كانوا من صغار الضباط وصف الضباط الذين لا قبل لهم بالمهمة الجسيمة التي تحركوا من أجلها. (ب)/ فشل بعض الجنود المكلفين في تنفيذ بعض المهام التي كلفوا بها، وتقاعسوا باهمال شديد عن اداء دورهم في المحاولة، (ج)/ عمت الفوضي العارمة كل جوانب المحاولة ولم يكن هناك انضباط عسكري، فالضباط تحركوا يعمل كلٌّ بطريقته دون التقيد بالخطة الموضوعة، (د)/ يقال ان كثير من المعلومات العسكرية قد تسربت عن الانقلابيين ووصلت الي النميري، الذي سارع الي الهروب من منزله ، واختبأ سرآ في منزل السيد/ بابتوت في الخرطوم بحري، وهو أحد أصدقاءه النميري القدامي من الذين عملوا معه طويلا ، وبالتالي فشل الانقلابيين في اعتقال النميري واعتقال أي من رموز النظام، أو احتلال أي موقع إستراتيجي من المواقع الرئيسية في الخرطوم، بل وفرطوا حتي في الإذاعة، (هـ)/ لم تكن هناك أي خطة للانسحاب او المقاومة في حالة فشل الانقلاب، مما سهل القاء القبض عليهم بسهولة، (ح)/ الأسلوب الذي تم به تنفيذ الانقلاب، كان منذ بدايته بدائيآ وممعن في الارتجالية وعدم الانضباط ، ومسالم للحد البعيد، كانت محاولة انقلاب اشبه بلعبة مسلية وليس انقلاب عسكري، (ط)/ كل من شارك في هذه المحاولة واء كانوا من العسكر او المدنيين، حصروا انفسهم في جهوية واحدة هي غرب السودان (دارفور وكردفان) دون اشراك الضباط الاخرين معهم، (ي)/ قائد الانقلاب حسن حسين باشر المهمة بنفسه برجولة وجسارة (زايدة حبتين)، وكانت النتيجة أن أصيب واعتقل بعد ساعة من بيانه الأول والأخير، وأصبح الانقلاب بلا رأس أو رئيس!!.

مرت خمسين عام علي هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت عام ١٩٧٥، وهاهم الاسلاميين اليوم يعاودهم الحنين العودة الي زمن حكم زمن الجبهة الاسلامية مرة اخري، ولا احد يدري ما يخبئه القدر لهذا البلد المنكوب حاليا بحكم نظام عسكري بلا هوية، ولهذا قد يعقبه حكم عسكر اخر اشد تطرف مما هو عليه الان، وما محاولة انقلاب بكراوي واحمد هارون الا “بروفة” ومناظر لفيلم اسلامي دموي قادم.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.