فى سبيل اعداد جيش جديد بعقيدة عسكرية وطنية
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2025/02/د.-محمد-عطا-مدني.jpg)
د. محمد عطا مدنى
إذا كتب الله لنا فى السودان التخلص من الطغمة العسكرية الحالية التى لاتنتمى للوطن السودانى ولا لشعبه بصلة ، وقامت الاجيال القادمة بتأسيس جيش جديد بعقيدة عسكرية جديدة تدافع عن الوطن والشعب ، وتصون دينه وتراثه وحضارته. فيجب قراءة هذا المقال للصحفى الهندى (انفار على خان). وهو بعنوان لماذا لم تحدث فى الهند الدكتاتوريات العسكرية؟
Why India has never seen a military dictatorship? By Anvar Alikhan
يقول الكاتب كانت الديكتاتوريات العسكرية ظاهرة شائعة في دول ما بعد الاستعمار في آسيا وأفريقيا ، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، ولم تكن الديكتاتورية في الهند مستحيلة. وأثناء تغطيته للانتخابات العامة لعام 1967م ، تنبأ مراسل التايمز (نيفيل ماكسويل) بأن هذه قد تكون آخر انتخابات في البلاد على الإطلاق. ولم يكن الوحيد الذي اعتقد أن الهند ستقع تحت الحكم العسكري عاجلاً أم آجلاً. مثل بقية بلدان العالم الثالث..! لكن هذا الاحتمال ، بالطبع ، لم يحدث أبدًا. لماذا ؟ .
إن سبب عدم محاولة الجيش الهندي الاستيلاء على السلطة يعزى إلى حقيقة أنه منضبط ومهني للغاية وغارق في التقاليد الفخورة التي يبلغ عمرها 250 عامًا والموروثة عن البريطانيين. لكن هذه النظرية غير مجدية ، لأن الجيش الباكستاني ولد بنفس التقاليد التي لم تمنعه من تولي السلطة.
لقد كان الجيش الباكستاني ذو قوة محترفة للغاية ، وعندما حان الوقت الذى شعر فيه أنه لم يعد بإمكانه الوقوف متفرجًا ومشاهدة البلاد وهي تنزلق إلى الفوضى ، شعر أن من واجبه التدخل لحماية الدولة والدستور.
فإذا كان الجيشان الباكستانى والهندى قد أسسا على نفس التقاليد البريطانية القديمة ، فلماذا لم تنزلق الهند إلى الدكتاتوريات العسكرية ؟ وقد أجاب على هذا التساؤل العالم السياسي (ستيفن ويلكينسون) بكتابه الجديد الممتاز (الجيش والأمة).
ومن أجل فهم ما لم يحدث في الهند ، ربما يكون من المفيد أن ننظر أولاً إلى ما حدث في باكستان. كان للديكتاتورية العسكرية في باكستان تاريخ سابق مثير للاهتمام. بدأت في الهند غير المقسمة ، حيث تم اختيار أكبر عنصر منفرد للجيش من (البنجاب) وكان ذلك قبل تقسيم القارة الهندية . وبعد التقسيم ، كان الجيش الأكثر أهمية من بين جميع المؤسسات التي ورثتها باكستان.، وغالبيته من البنجاب..! .
علاوة على ذلك ، لم تكن الرابطة الإسلامية في باكستان أكثر من (محمد على جناح وسكرتيره الخاص) ، وبالتالي كان هناك (خلل بنيوي مدنى خطير) في باكستان ، خاصة بعد وفاة جناح عام 1948م. كما هو عندنا الآن فى السودان من ضعف واضح فى منظمات المجتمع المدنى .
وعليه لم تأت الديكتاتورية العسكرية في باكستان من فراغ . ففي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، على سبيل المثال ، اندلعت أعمال شغب في لاهور لأن السلطات المدنية لم تكن قادرة على السيطرة عليها. أخيرًا تم استدعاء الجيش وقام بإخماد المشاكل بسرعة.
وعندما رد الحاكم العام لباكستان عام 1958م على حالة الفوضى السياسية في البلاد بإعلان الأحكام العرفية واستدعاء الجيش ، كان هناك قسم من الجمهور ابتهج بالأخبار. في الواقع ، كان هناك قول مأثور في ذلك الوقت يعلق على مصطلح (الأحكام العرفية) ترجم تقريبًا بعبارة (بحمد الله ، الأمور في باكستان على ما يرام الآن) .
وما أعقب ذلك على مدى السنوات القليلة التالية كان فترة من التطور الوطني الملحوظ في باكستان ، تحت رئاسة الجنرال أيوب خان قبل أن يدب الفساد فى الحكومة العسكرية عندما طالت مدة حكمها ، كما هو الحال دائمًا فى دول كثيرة أفريقية وأسيوية وفى أمريكا اللاتينية التى حكمتها حكومات عسكرية.
أما فى الهند أيام الاستعمار البريطانى ، فقد تمتع الجيش الهندى بمكانة بارزة في الحياة الهندية ، بل إنه لعب دورًا في الأمور السياسية. وكان القائد العام للقوات المسلحة وزيرا للدفاع بحكم الأمر الواقع ، وكان ثاني أقوى شخص في التسلسل الهرمي بعد نائب الملك نفسه. لكن بعد الاستقلال بدأت الأمور تتغير. وكان حزب المؤتمر في الهند منظمة ديموقراطية متطورة ودائمة وتتمتع بمصداقية بين الجمهور كمؤسسة لعمل حزبى مدنى متين البنيان. وعليه تم وضع سياج حلقى حول الجيش الهندى حتى يتمركز فى أداء دوره المنوط به جيدا .
وقد بدأ التفكير فى ذلك فى عهد رئيس الوزراء نهرو الذى أدرك أن الهند الجديدة بحاجة إلى إعادة التفكير في دور الجيش ، وشرع في سياسة من شأنها إخضاعه (بقوة) للسلطة المدنية. وكان أحد الأشياء الأولى التي حدثت بعد الاستقلال ، على سبيل المثال ، هو أن قائد الجيش ، يتم تعيينه من قبل رئيس الوزراء ، مسألة صغيرة بحد ذاتها ، لكنها مؤشر واضح على الطريقة التي كانت الهند ترغب فى ممارستها.
بعد ذلك جاءت سلسلة من التخفيضات في الميزانية ، نتج عنها تنزيلات ضخمة في رواتب ضباط الجيش السخية في عهد رئيس الوزراء (راج). وعندما انتقد أول قائد للجيش الهندي المشير (كاريابا) علنًا الأداء الاقتصادي للحكومة ، تعرض على الفور لانتقادات شديدة ، وطُلب منه عدم التدخل في الأمور التي لا تهمه .
وعلى مر السنين ، تم اتباع برنامج منظم لإغلاق السياج بين القوات المسلحة وتأثيرها في المجتمع الهندي وهو برنامج تم إعطاؤه إلحاحًا جديدًا في عام 1958م قبل الانقلاب العسكري في باكستان المجاورة . كان من أبرزه تعيين (كريشنا مينون) المفكر اليساري القوي والناشط ، كوزير للدفاع ، وهو من السياسيين المدنيين المشهود لهم بالكفاءة ، وكانت محاولة لوضع القوات المسلحة (في مكانها) بشكل لا لبس فيه…! .
وحدث أن جميع جيران الهند في جنوب شرق آسيا باكستان وبنغلادش وبورما وسريلانكا قد شهدوا انقلابات عسكرية فعلية أو محاولات لذلك ، ولم يحدث ذلك فى الهند .
وبحلول سبعينيات القرن الماضي ، أصبحت القوات المسلحة الهندية أخيرًا (مقاومة للانقلابات) وذلك من خلال نظام شامل من الضوابط والتوازنات التي تم وضعها. ويمكن اعتبار ذلك أحد الإنجازات الرئيسية لعصر نهرو، التى أكد فيها على ضمان استدامة الديمقراطية الهندية .
يشرح (ويلكنسون) كيف تم تنفيذ (منع الانقلاب) ، من خلال مجموعة من الإجراءات المدروسة بعناية ، والتي تتراوح بين (تنويع التكوين العرقي) للقوات المسلحة إلى (إنشاء هياكل قيادية بسيطرة قوية ) ، وإعادة ترتيب الأسبقيات بين المدنيين. والسلطات العسكرية ، مع إيلاء اهتمام وثيق للترقيات ، وعدم السماح لضباط الجيش بالإدلاء بتصريحات علنية ، وعدم إنشاء قوات شبه عسكرية موازنة مثل الحرس الوطنى فى بعض الدول ، وإرسال رؤساء الأركان المتقاعدين عادة كسفراء إلى دول بعيدة.
وكانت النتيجة النهائية لكل هذا أنه عندما ذكرت الصحف ، في عام 2012م بلهفة أن هناك محاولة انقلاب ، حيث تحركت وحدات الجيش خلسة نحو دلهي في أعقاب قضية VK Singh العامة ، تجاهل الناس واكتفوا بالقول : يا له من هراء ، وتحولوا إلى صفحة الرياضة . وهذا يعبر عن رأى الشعب الذى تكون عبر سنوات طويلة والذى يعنى أن الجيش له وظيفة واحدة هى حماية الدولة والدستور والشعب ولا شأن له بالسياسة . وربما لا يدرك الكثيرون (أهمية ورفاهية) هذا النوع من اليقين..! .
وكانت النتيجة نشوء أكبر واقوى ديموقراطية مستدامة فى العالم وهى الهند ، ووجود جيش قوى مهاب يتمتع بقدرات عسكرية تخشاها أقوى الدول كما يتمتع بقدرته على الردع النووى..!!! .
وعليه، فعند التفكير فى إعادة تكوين جيش سودانى جديد بعقيدة وطنية خالصة ، يجب وضع ماجاء فى هذا المقال حيز التنفيذ بالإضافة إلى الآتى:
1/ اللجوء إلى اختيار نخبة من الضباط المحالين سياسيا إلى التقاعد من العناصر الوطنية صغيرة العمر نسبيا وخاصة ممن يجيدون اللغة الإنجليزية ، للمشاركة فى عملية فرز وتصنيف عناصر الجيش الحالى ، لإبعاد كل من له انتماء حزبى أو جهوى يغلب على توجهه الوطنى، أو شارك فى جرائم حرب يعاقب عليها القانون ، أو قام بانقلابات عسكرية تهدد الأمن العام وحياة الشعب ، وذلك اعتمادا على التقارير وعلى شهود عدول ، وعلى تنفيد القوانين بعدالة.
2/ الاعتماد على خبراء فى التدريب من الكلية العسكرية البريطانية (سانت هرست) ، مع الاستعانة بأحدث التدريبات والتكنولوجيات العسكرية الحديثة فى العالم، التى تستغل للحفاظ على الدولة والشعب والدستور. وذلك بمعاونة العناصر الموجودة فى رقم (1) ، وعدم الاستعانة بأى كلية عسكرية عربية فى التدريب، لإبعاد (عمليات الاستقطاب) التى تجرى لبعض ضباط الجيش السودانى الذين يتلقون دراسات أو تدريبات أو دراسات عليا فى دول عربية شقيقة.
3/ الاعتماد فى تصميم المقررات الدراسية النظرية والوطنية ومقررات التوجيه المعنوى فى الجيش على نخبة من أساتذة الجامعات السودانية لإعداد هذه المناهج والمقررات ، التى تركز على ربط الضابط والجندى بشعبه وعدم التعالى على غيره من المدنيين ، وعرض هذه المقررات على مجلس شعب منتخب انتخابا حرا ونزيها ، لتعديلها ومواءمتها مع أهداف الشعب السودانى فى الحرية والديموقراطية ، وذلك لربط الجيش الجديد بالشعب برباط وثيق لا تنفصم عراه.
4/ قبول الطلبة الحربيين والجنود بعد تمحيض شديد ، كما كان يحدث سابقا قبل الاستقلال وبعده ، لضمان سيادة الأخلاقيات السودانية التى اشتهر بها الشعب السودانى بين الأمم الأخرى. على أن يمثل هؤلاء جميع مناطق السودان كافة وبعدالة شديدة حسب التعداد السكانى لمناطق ومدن ومديريات السودان.
والله ولى التوفيق والسداد.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة