فلْنَتَعلَّم العصيانَ من الكيزان السودانية , اخبار السودان
فلْنَتَعلَّم العصيانَ من الكيزان
النور حمد
هاجت المنابر الكيزانية وماجت على أثر إعلان إدارة بايدن، في أخر أسبوعين لها في السلطة، توقيع عقوباتٍ على قائد قوات الدعم السريع، وبعضٍ ممن حوله، بدعوى ارتكاب ما يسمى “الإبادة الجماعية”. ابتهج الكيزان، وكأنَّ مثل هذه الإعلانات الأمريكية التي كثيرًا ما تكرَّرت وشملت حكوماتٍ وأفرادٍ، قد كان لها أثر يُذكر. فقد رزح هؤلاء الكيزان أنفسهم، تحت طائلة العقوبات الأمريكية لقرابة الثلاثة عقود، إلى أن أخرج الدكتور عبد الله حمدوك البلاد منها. لكن، بعد أن دفع مبلغ 335 مليون دولارًا تعويضًا لأسر الضحايا من الأمريكيين، وغير الأمريكيين، الذين فقدو أرواحهم في تفجيرات تنظيم القاعدة، التي استهدفت السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، في أغسطس 1998.
رغم كل العقوبات، بقي الكيزان ممسكين بالسلطة، وها هم قد وصلوا فيها الآن إلى عامهم السادس والثلاثين. وحتى في السنتين اللَّتين أدارت فيهما حكومة الدكتور عبد الله حمدوك البلاد كانوا ممسكين بالسلطة إلى أن انقلبوا عليه. ومن ثم، بدأوا تخبُّطُهم الذي أوصل البلاد إلى حمامات الدم التي نشهدها الآن، وإلى الدمار والتشرُّد، والمجاعة التي تهدد 30 مليونا. وعلى الرغم من كل الجرائم التي ارتكبوها ضد المدنيين منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعبر سنوات الثورة، وأثناء هذه الحرب، من إعدامات ميدانية وتمثيل بالجثث وقصف للمدنيين بالطائرات، لم تحرك الإدارة الأمريكية ساكنا. بل، اتجهت في أخر أسبوعين لها إلى فرض عقوباتٍ على قائد قوات الدعم السريع، رغم أنه ما انفك يعترف بالانتهاكات التي تمارسها قواته، ويعلن قبوله بأي تحقيقٍ دولي. غضت إدارة بايدن الطرف، عن إجرام الكيزان الموثق توثيقًا دقيقًا، فأظهرت بذلك أنحيازًا لطرفٍ واحدٍ من أطراف الحرب، وأربكت المشهد وأضعفت فرص الحل. منحت إدارة بايدن شرعية للبرهان وللكيزان رغم تنصُّلِهم من أي دعوةٍ للتفاوض، ورفضهم المعلن لوقف القتال. الطريف، أن الكيزان ظلوا يعصون الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ التسعينات، ومع ذلك، بقوا، في السلطة، إلى اليوم! فهلَّا تعلَّمنا منهم فن العصيان؟
لقد أخذ النظام القديم، مؤخرًا، يعلن عن نفسه في سفورٍ وقح. وأصبح المطلوبون من قياداته لدى محكمة الجنايات الدولية، بسبب ارتكابهم جرائم إبادة جماعية وجرائم تطهير عرقي، كالرئيس المخلوع عمر البشير وشريكه في الجرائم أحمد هارون وغيرهما، طلقاء. وتأتي الأخبار، من حينٍ لآخر، بأنهم يعيشون في مدن الشريط النيلي الشمالي. ومؤخرًا ظهرت صورٌ لكبار دهاقنتهم وهم حضورٌ في فعاليةٍ في مدينة القضارف. باختصار، لم يعد أحدٌ في العالم يعبأ بالعقوبات الأمريكية. فأكثرية الناس، خاصةً في العالم النامي، أصبحوا يعرفون أن دوافعها ملتبسةٌ دائما. وأن الحديث عن حقوق الإنسان، ونصرة المظلومين، الذي يجري به تبرير هذه العقوبات، ليس سوى غطاءٍ زائف.
التهديد الأمريكي للمحكمة الجنائية
دعونا فقط ننظر إلى ما جرى في مجلس النواب الأمريكي، يوم الخميس 9 يناير الجاري. فقد أورد موقع (سي إن إن العربية)، أن مجلس النواب الأمريكي، قد أقر مشروعَ قانونٍ لفرض عقوباتٍ على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، ردًّا على إصدار المحكمة مذكرةَ اعتقالٍ بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. ويدعو مشروع القانون الذي وافق عليه النواب، بأغلبيةٍ كبيرةٍ، إلى إدانة أوامر الاعتقال التي تصدر ضد المسؤولين الإسرائيليين، بأشد العبارات. ويمضي الموقع فيقول: وفقا للنص التشريعي، فإن هذا الإجراء سوف يفرض عقوباتٍ على أعضاء المحكمة، إن هم قاموا بأي جهدٍ للتحقيق، أو اعتقال، أو احتجاز، أو محاكمة أي شخصٍ محميٍّ من الولايات المتحدة وحلفائها. فهل رأى الناس في ازدواجية المعايير ما هو أغرب من هذا؟ ويمكن أن نأخذ مثالًا آخرًا، وهو ما مارسته السلطات الإسرائيلية من وحشية مفرطة، في حربها الجارية ضد سكان غزة. لكن، مع ذلك، لم تصدر من الإدارة الأمريكية، أو النادي السياسي الأمريكي؛ بشقيه الجمهوري والديمقراطي، أي إدانةٍ لها. بل، هاهو النادي الأمريكي، بشقيه، يقف ليحمي إسرائيل، من إجراءات المحكمة الدولية نفسها! بل، ويهدد قضاتها بالعقوبات، إن هم سعوا فعليًّا إلى القبض على نتنياهو، أو أصدروا أوامرَ بتوقيفاتٍ أخرى.
فشل بيرللو وقطع الطريق على ترمب
لقد فشل مبعوث إدارة بايدن إلى السودان، توم بيريللو، فشلاً ذريعًا في إدارة الملف السوداني، الذي أُسند إليه. فالرجل لقد وقع، منذ البداية، في يد المخابرات المصرية التي ضللته. فتجاهل الثورة والثوار، وطفق يسمع للحواضن الشعبية “الموزية” الزائفة التي زودته بها المخابرات المصرية، وإلى بعض المثقفين المتماهين مع أجندة مصر في السودان. وها هي إدارة بايدن، الفاشلة، التي عينت بيرللو، تخرج في آخر أسبوعين من عمرها بعقوباتً على قائد قوات الدعم السريع، لتهب الكيزان والبرهان، الذين ظلوا، باستمرار، يعصون دعواتها للتفاوض، إحساسًا بالشرعية وبالقبول الدولي. هذه الدفعة المعنوية الزائفة هي التي جعلت البرهان يقوم بتعديلات إضافية على الوثيقة الدستورية التي نسفها بانقلابه، مانحًا نفسه سلطاتٍ إضافيةٍ، تجعله حاكماً مطلقًا. خلاصة القول، قرار إدارة بايدن بتوقيع عقوبات على قائد قوات الدعم السريع قرار سياسي بحت. بل هو قرارٌ انتقاميٌّ موجهٌ إلى ترمب، هدفه قطع الطريق أمامه لكيلا يحقق اختراقًا ونجاحًا في الملف السوداني، بعد أن فشل فيه الحزب الديمقراطي، هذا الفشل المدوِّي.
إدارة بايدن، التي سوف تنتهي ولايتها بعد أسبوعٍ تقريبًا، هي أضعف وأفشل إدارةٍ مرَّت على أمريكا في الخمسين سنة الماضية. ولا غرابة أن انهزمت في الانتخابات الأخيرة هزيمةً ساحقةً، لم يحدث لها مثيلٌ في أمريكا، منذ عقودٍ طويلة. خرجت هذه الإدارة المرتبكة هاربةً من أفغانستان بهلعٍ لا يليق بقوةٍ عظمى، معيدةً بذلك إلى الذاكرة، ما حدث في فيتنام، حين أطبق ثوار الفيتكونغ على مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية. هربت من أفغانستان، تاركةً وراءها حلفاءها من الأفغان ليلاقوا مصيرهم على يد متطرفي طالبان. فأضطر بعضهم، ممن أطبق عليهم اليأس، إلى التشبث بإطارات طائرة سلاح الجو الأمريكي المغادرة، وهي تُجلي الجنود والرعايا الأمريكيين. وقد سقط هؤلاء المفزوعون صرعى على أسفلت مدرج مطار كابول. أيضًا، ورَّطت إدارة بايدن رئيس الوزراء الأوكراني المتنطع، زيلينسكي، في حربٍ غير متكافئةٍ مع روسيا، سوف تنتهي به إلى الرضوخ للشروط الروسية بقبول عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، بعد أن فقدت أكرانيا مساحاتٍ معتبرة من أراضيها، وتشرد الملايين من سكانها، وبعد دمارٍ شديدٍ للغاية. كما أن إدارة بايدن تحالفت قبل أسابيع مع تركيا لتصبح سوريا تحت خطر سيطرة المتطرفين الإسلاميين، بقيادة الجولاني.
فيا قوى ثورة ديسمبر، أخرجوا من عبادة صنم المجتمع الدولي الذي ظللتم له عاكفين، ومن متلازمة “انتظار جودو”. لن يأتيكم الحكم المدني على طبقٍ من فضةٍ، محمولاً على أيدي المجتمع الدولي. ولكم في بيريللو ومهمته العبثية، عبرة كافية. لا تحلموا بأن تعود الشوارع، مرَّةً أخرى ممتلئة بالثوار السلميين، لأن بقايا الدولة الرثة التي سمحت لنا بقدرٍ ضئيلٍ، من ممارسة النضال السلمي، قبل الحرب، لم تعد هناك. هذا الوضع المعقد الجديد هو ما أراد الكيزان خلقه بحربهم هذه، حتى يصبح المخرج الوحيد المتاح لعامة الناس هو الرضوخ لهم ليحكمونا مرة ثانية، وبصورة أبشع، وبما لا يقاس من سابقتها، وقد شاهدنا تباشيرها. لا مخرج من هذا المأوق إلا بتكوين جسمٍ مدنيٍّ عسكريٍّ، تتوحد فيه أكبر كتلةٍ ممكنةٍ من قوى الثورة السياسية والعسكرية، والتي من الضروري أن تشمل القادة، عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد النور، والجبهة الثورية، والدعم السريع.
لقد استفاد الكيزان كثيرًا من تفرُّق قوى الثورة، وقد أزف الوقت لقفل هذه الثغرة أمامهم. لن تعود الدولة السودانية وتضع رجلها على درب التعافي، ما ظل الكيزان يملكون السلاح والمال والإعلام. خطة الكيزان كالآتي: أن يعودوا إلى السلطة، ليدفنوا كل جرائمهم وفسادهم، وليقضوا على كل معارضٍ، قضاءً تامًا. الخيار الآخر الوحيد المتاح، وقد جاءت لحظته الفارقة، هو أن تنكسر بندقيتهم، ويكفوا عن عرقلة مسار الثورة. وإن هم، عادوا إلى رشدهم، أثناء المواجهة معهم، وجنحوا للسلم، لتيقُّنهم بأن الثورة قد أصبحت لها شوكة، فلا بأس، حينها، من أن تجنح قوى الثورة للسلم. فالكيزان لن يجنحوا للسلم إلا إذا رأوا قوةً عسكريةً ومدنيةً موحدةً، ممسكةً بالأرض، بل، وقادرةً على الزحف على ما لديهم من أرض‘ فإنه لا يفل الحديدَ إلا الحديد.
المصدر: صحيفة التغيير