حسن عبد الرضي الشيخ
كتبنا مقالا عن المشهد المخزٍ الذي يختصر أوجاع التعليم السوداني، حيث أطاحت وزيرة التربية والتعليم بولاية النيل الأزرق بكبيرة المراقبين الجسورة في مركز امتحانات طيبة، فقط لأنها رفضت أن تكون شاهدة زور على مسرحية الغش الممنهج التي أدارها المتنفذون من خلف الستار. فلم تُقل لأنها قصّرت، بل لأنها قاومت. لم تُحاسب لأنها أخطأت، بل لأنها لم تشترك في الجريمة.
فلقد تحوّل مركز طيبة للامتحانات من مؤسسة يفترض أن تكون حصنًا للعدالة التعليمية إلى وكر منظّم للفساد، تديره شبكة من المسؤولين والتربويين والسماسرة، بدءًا من مدير المدرسة ومرورًا ببعض قيادات الوزارة، وانتهاءً بأبناء كبار المسؤولين الذين تم إعداد الأجواء لهم للغش والتلاعب تحت غطاء رسمي وقانوني.
إن المعلومات التي أوردها بيان “الجبهة الشبابية للإصلاح والتنمية” ليست اتهامات مرسلة، بل وقائع موثقة بالأسماء والأرقام. من بين الأسماء:
ابنة عبد العاطي محمد الفكي، محافظ الكرمك (رقم الجلوس ٢٧٣٠٤٩)، أبناء مدير مدرسة الزهور، ابن أمين مخازن وزارة التربية، ابن مدير مكتب الوزيرة نفسها، ابن مدير المرحلة المتوسطة، ابن موجه مادة الفيزياء.
وهل بعد هذا تحتاج الفضيحة إلى دليل؟ والفضيحة لم تكن فقط في الغش، بل في عدد الطلاب الذين امتحنوا داخل مركز طيبة. فقد تجاوز عددهم ٣٠٠ طالب وطالبة، في حين أن العدد الفعلي لطلاب المدرسة لا يتجاوز ٢٥ فقط! أين ذهب الباقون؟ ومن أين جاؤوا؟ وكيف تم إدخالهم؟ الأسئلة لا تُعد، والإجابات كلها تشير إلى شبكة فساد مركّبة، لا يمكن أن تمر دون عقاب إن كنا نحترم شيئًا اسمه “التعليم”.
المؤلم في هذه المأساة أن الوزيرة بدل أن تكرّم المراقبة الشجاعة التي تمسّكت بمبادئها قررت أن تجعل منها كبش فداء لحفظ ماء وجه السلطة التربوية الغارقة في الوحل. أقالتها لأنها رفضت أن تبيع شرفها المهني. أقالتها لأنها قالت: لا.
أبناء الفقراء والمجتهدين يواجهون امتحانات الحياة بصبرٍ وكدٍّ، بينما أبناء المتنفذين يعبُرونها بأموال آبائهم ونفوذهم، ثم يزاحمونهم على مقاعد الجامعات والوظائف، في استمرار فجّ لهرم مقلوب من الظلم والفشل.
إننا أمام قضية ليست تعليمية فقط، بل قضية وطنية بامتياز. من يغش في الامتحان اليوم، سيغش في الوزارة غدًا، وفي القضاء، وفي الطب، وفي الجيش، وفي كل مفاصل الدولة. ومن يغضّ الطرف عن الغش، فهو شريك في قتل مستقبل وطن بأكمله.
نطالب بتحقيق فوري وشفاف، لا يستثني أحدًا مهما علت رتبته أو قرب من الوزيرة، كما نطالب بإعادة الاعتبار للمراقبة المفصولة، فهي لم تخن، بل وقفت على خط النار وحدها.
وإن لم تتحرك الجهات المختصة لفتح هذا الملف الجريء، فإن على الشعب أن يعرف الحقيقة بكل تفاصيلها، ويطّلع على “قائمة العار” التي تضم ٢٧٥ اسمًا من خارج مدرسة طيبة. فالشعب هو صاحب المصلحة الأسمى في نقاء شهادته التعليمية، لا الوزراء ولا أولياء أمور المتنفذين.
لن نصمت. لن نهادن. فالتعليم خط أحمر، وخيانة الأمانة جريمة لا تسقط بالتقادم.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة