اخبار السودان

فتحي البحیري .. یسوي “الاكفھرار” ویرحل (3 3) في زمرة الفقراء

جعفر خضر

 

تطرق الجزءان السابقان من المقال إلى مؤلفات فتحي البحيري المنشورة وغير المنشورة وأغنية “مسألة”. َوتناول مسيرة فتحي في جامعة الخرطوم وهجمة الحركة الإسلامية ونظام الإنقاذ عليها، وتسمية فتحي لابنه (سليم) تيمنا بالشهيد سليم أبو بكر. وانعكاس ذلك على رواية (اكفهرار) وصبغها بلون الثورة القاني.

وتناول خروج فتحي على المدينة، الذي تمظهر في انخراطه في حركة الطلاب المحايدين، التي خرجت على النادي السياسي القديم. كما أنه كان أحد المساهمين في تأسيس (حزب الخضر السوداني)، وأصبح رئيسا للجنة تسييره. وأبان قيادة فتحي ل(موقع كتابك الإخباري)، ومعاركه في موقع سودانيز اونلاين مع جملة الصحفيين.

وتطرق المقال إلى نبوغ فتحي في علم الریاضیات ومساهمته في تأسيس (المدرسة الإلكترونية السودانية) التي فازت ب”جائزة القمة العالمية”. وتناول إمساك فتحي بناصية اللغة التي صاغ حروفها أشعارا وروايات ومقالات.

 

في زمرة الفقراء:

لم يكن انحياز فتحي البحيري للفقراء بسبب حنوه ورأفته فحسب، بل ولأنه من زمرتهم.

بعد أن تخرج في مدرسة العلوم الریاضیة بجامعة الخرطوم، لم یكن یمتلك جھاز كمبیوتر. عكف فتحي على ارتياد مقاھي الانترنت حتى یستطیع أن یكتب مقالاته ويواصل حواراته أو يدير معاركه.

كان یرتاد مقھى وادي السیلیكون، في الشھداء بأمدرمان، في الفترة من العام 2003م وبعدھا، لیكتب في موقع سودانز أونلاین أو سودانیات. ذلك قبل ميلاد الفيسبوك. وفي كثیر من الأحیان لم يكن فتحي یملك ثمن دخول النت، فقد یحصل على فرص مجانیة، أو قد یشتغل في الطباعة لیوفر ثمن دخول الشبكة! ثم يجهر في المواقع برأيه الذي يمتلئ عزة وكبرياء.

التقینا مرة بعد ثورة ديسمبر العظيمة في نشاط نظمته حركة بلدنا بدارها بالخرطوم. ويبدو ان فخامة الاسم (فتحي البحيري) الحاضر إسفيريا قد جعلت أخي رامي يرسم له صورة في مخيلته. قلت لفتحي أن رامي استغرب عدم امتلاكك ل”عربية” . رد فتحي: (ما عندي عربیة وما حاسد العندھم عربات).

إن رواية (اكفھرار) التي تُعنى بالفقراء وعذاباتھم. اختار أبطالها، الذین أصبح بحوزتھم الكثیر من المال بفضل نفیسة كباشي، اختاروا لأنفسھم أن یعیشوا حیاة “الفقرا” مع غمار الناس. حدثنا الراوي صلاح، بأسلوب ساخر، عن حمامه الصباحي (الحي ووب) بقوله (أكملت اغتسالي ثلاث مرات. وسطھن بالفنیك). فقد كان صلاح يستحم بدون حنفية مستخدما صابون الفقراء الرخيص، ذا الرائحة النفاذة، الذي يعرفه حق المعرفة. فعندما ذھب صلاح برفقة رتایة الحاج إلى ذلك الحي الطرفي الفقیر للسؤال عن جدة البنفسجي، فإذا بامرأة (فتحت دون استئذان باب السیارة الخلفي. أدخلت في معیتھا وشایة لكینونتھا الراھنة ولم تملأ فضاء السیارة برائحة الشاف والطلح وحسب وانما ایضا برائحة كركار یبدو أنھا استخدمته ھذا الصباح بسخاء. ولدھشة أنفي وأنف زوجتي ورغمھما لم یفلح ذلك كله في إخفاء رائحة صابون فنیك)!!

***

إن الناس أربعة أنواع : نوع المال في قلبه وفي یده. وھؤلاء هم الذين سموا البخل إصلاحاً والشُحّ اقتصاداً، كما قال الجاحظ، والذي خاطب أحدهم قائلا : قد رضيت ان يقال : عبد الله بخيل؟ قال لا أعدمني الله هذا الاسم. قلت : وكيف؟ قال : لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلّم إلي المال، وأدعني بأي اسم شئت!

ولا سبيل لك على هؤلاء، إلا أن تدعو الله ألا يستنبحَ الأضيافَ كلبهُمُ!

ونوع آخر المال في قلبه ولیس في یده، وھؤلاء یجرون جري الوحوش للحصول علیه، ومنهم “الأشاوس”.

ونوع المال لیس في قلبه ولكنه في یده، وهؤلاء هم النفيسون النفيسيون، من زمرة نفیسة كباشي.

ونوع “لا يملك شيئاً، ولا يملكه شيء”، وھذا ھو فتحي البحیري، صاحب اللازمة الكتابية (الله في) ..

ما الناس سوى قوم عرفوك

وغيرهمُ همجْ همجُ

دخلو فقراء إلى الدنيا

وكما دخلوا منها خرجوا

***

الكرم الفتحوي:

ظل فتحي البحیري، طوال عمره كریما، على طريقته، یھدي أثمن ما عنده .. العلم والشعر والروایات.

شارك فتحي، في أواسط تسعینات القرن الماضي، في برنامج احتفالي أقیم في كافتیریا علوم بجامعة الخرطوم، ربما نظمته أسرة كلیة العلوم أو حركة الطلاب المحایدین خصني فتحي بإھداء قصیدة، قرأھا على الجمھور. كانت تلك أول ھدیة أتلقاھا من ھذا النوع! ویا لھا من ھدیة!! لا یُنقص من عظمتھا أنني لا املك لھا نصا مكتوبا أو مسجلا .

إن فتحي، الفقیر إلى الله، رجل نادر، مثله مثل نفیسة الغنیة بطلة روايته و(من لا یعرف نفیسة كباشي لا یعرف أنھا تفرح للعطاء أشد من فرحھا للأخذ، ولا یفقه أنھا تمتن لمن یقبل منھا ما تعطیه اكثر مما تمتن لمن یعطیھا).

بعد حوالي عشرین عاما من زیارة فتحي الأولى لي بداخلیة امتداد ترھاقا زارني في محل إقامتي القصیرة بكمبالا، فأھدى لنا، في منتدى شروق الثقافي، نسخاً من روایته (اكفھرار)، والعدد الأول (والأخير) من مجلة (سماوات) التي ترأس تحريرها. ألم أقل لكم أنه یھدي أثمن ما یملك!

وكنت قد اقترحت على اللجنة التنفیذیة لمنتدى شروق وقتذاك أن تكون (اكفھرار) محلا للنقاش في منبر المنتدى، ولكنني لم ألُح، ولیتني ألححت.

ظل فتحي يبذل علمه لطلابه في المواقع الالكترونية، “ويبذر قمحه للطير والسابلة”؛ وينثر شعره في مكتبة البشير الريح وغيرها من المنابر؛ ويتيح مقالاته لكل ثائر!

إن روایة (اكفھرار) التي صدرت ضمن (مطبوعات موقع كتابك الالكتروني) لم یكتب علیھا أن النسخة محفوظة للكاتب أو لموقع كتابك. وقد نشر البحیري روایة (میاه إقلیدیة) الكترونیا وكتب على صفحاتھا الأولى بالحرف الواحد “حقوق النشر غیر محفوظة”.

إن فتحي الكريم يشيع بين الناس كل ما یملك!

***

على سبيل الخاتمة :

في يوم الجمعة 26 أبريل 2024م أمسى فتحي في خلوته بمدينة الصالحة بأمدرمان (وما ادراك ما الصالحة؟) حيث مازح أطفاله الصغار بمزاج رائق.

وفي صبيحة اليوم التالي سعى ابنه “سليم” من منزل الأسرة المجاور إلى الخلوة، ليزوده بشاي الصباح، ولكن كانت الروح قد سبقته وفارقت الجسد.

لم يعطنا فتحي الفرصة لنوصيه بأن يسلم على : بشير، سليم، التاية، وطارق، وشهداء سبتمبر وديسمبر؛

بيد أن الذي جعل جيفارا البنفسجي يلتزم بإيصال التحايا لا يحتاج إلى وصية!

خلف فتحي بناتا وبنينا : سلام، وبراءة، وسما، وسليم، وعبد الرحمن. لم يورثهم مالا، ولكنه ترك خلفه قيماً، ومعانٍ، ومؤلفاتٍ تنتظر الطبع. وأزعم أن طباعة هذه الكتب وتزويد أطفاله بريع منها، وإن قل، يرضي فتحي كامل الرضا.

***

انداحت محبته بين أصدقائه لما كتب فتحي “الضال” في صفحته على الفيسبوك: (أشھد ﷲ والنھر والأطفال وأشھدكم جمیعا، أنني لم أكره یوما أحدا لعرقه، ولم أحب أحدا لقبیلته. لم أذل نفسي لمن ھو أقوى مني، ولم أعزھا على من ھو أضعف مني).

جهر فتحي بهذه المعاني الوضيئات المضيئات، ليس لاتصافه بها فحسب، بل لتذيع بين الناس. غير أنه وقع عليها باسم “فتحي الضال”، لمحو، ربما، أي شبهة تمس الفخر أو تلامس الغرور.

لما كشف صلاح لنفيسة كباشي محاكاتهم لاكفهرارتها، قالت له (انت ما شفت اكفھرار یا ولدي … ﷲ لا وراك الاكفھرار)!

ولكن ها ھو فتحي البحيري “يورينا” “الاكفھرار” الجد جد، قبيل رحيله.

فقد كان النشاط قبل الأخير لفتحي في صفحته على الفیسبوك تثبيت الآية القرانية صورة للغلاف :

(وَبَشّر الصَّابرينَ الذين إذَا أصَابتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا إنَّا للّه وَإنَّا إلَيْه رَاجعُون أولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

لقد نعى فتحي نفسه مقدما!

ثم كتب في نفس اليوم بوسته الأخير، موجها لنا جميعا:

(ما عافي لمن استقوى بسلطة .. او انصاع لھا .. لیضر ویؤذي ھذا الشعب او أیا من أفراده، وانا خصیمه یوم القیامة)!

اللھم ارحم فتحي، ولا تجعلنا خصومه یوم القیامة!

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *