فتحي البحیري .. یسوي “الاكفھرار” ویرحل (2 3)

جعفر خضر
تطرق الجزء السابق من المقال إلى روايات فتحي البحيري المنشورة (اكفهرار) و(مياه إقليدية)، ومخطوطاته التي تنتظر الطبع : (حیاة السر مدیح روایة)، (على خطى موتي الجمیل شعر)، (زیدان الكسلان مجموعة قصصیة)، كما تطرق إلى قصيدة “مسألة”، التي لحنها وتغنى بها الفنان علي الزين.
وكذلك تناول مسيرة فتحي في جامعة الخرطوم وهجمة الحركة الإسلامية ونظام الإنقاذ على الطلاب في ديسمبر 1989م التي أدت إلى استشهاد بشير وسليم والتاية. ومظاهرة مناهضة تصفية السكن والإعاشة في 1991م التي استشهد في خضمها طارق محمد إبراهيم. ومعركة مقاطعة الامتحانات، وتزوير الإسلاميين للانتخابات في 1993م، وتسمية فتحي لابنه (سليم) تيمنا بالشهيد سليم أبو بكر. وانعكاس كل ذلك على رواية (اكفهررار) وصبغها بلون الثورة القاني.
الخروج على المدينة :
إني على هذه المدينة
(من زمان)
قد خرجت
ماذا تقول المالكية في دمي؟
لم يخرج فتحي من المدينة، بل خرج عليها. فعندما كان طالبا في المرحلة الثانوية لم ينخرط في الجبهة الديمقراطية أو الاتجاه الإسلامي أو غيرهما، وإنما خط لنفسه طريقا مختلفا. كان فتحي يخاطب الطلاب عبر الأركان، التي ينظمها وحده، معبرا عن رؤاه.
ولما التحق بجامعة الخرطوم، انخرط في حركة الطلاب المحايدين، التي خرجت على النادي السياسي القديم، ابتداء من منتصف ثمانينات القرن الماضي، والتي توسعت بخطى متسارعة حتى عمت كل كليات الجامعة، وفرهدت في جامعات جوبا والأهلية وشندي. وقد نازلت حركة الحياد نظام الإنقاذ نزالا عنيدا، قبل أن ينحسر مدها وتنزوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
***
كان فتحي البحيري أحد المساهمين في تأسيس (حزب الخضر السوداني) الذي نشأ في العام 2011م. تم إعداد البرنامج السياسي للحزب استنادا إلى مبادئ (السياسة الخضراء) التي تشتمل على : احترام قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، واحترام البيئة، والتزام الخيار الديمقراطي. ولعل حزب الخضر هو أول حزب سوداني يضع البيئة في أولوياته العليا.
لقد أصبح فتحي رئيسا للجنة تسيير حزب الخضر في العام 2012م. فعلق أحدهم ممازحا، في موقع سودانيزاونلاين، سيكون هتاف المرحلة (فتحي جرجير لإسقاط البشير)!
بيد أن الحزب لم يتنزل من الفضاء الإسفيري إلى أرض الواقع. ربما يكون ذلك بسبب قصور ذاتي في القائمين عليه؛ كما أن الظرف الموضوعي المتعلق بضعف الوعي البيئي، ربما كان سببا في تعثر فكرة الحزب، لا إجهاضها؛ إذ أن حزبا يضع البيئة في أعلى سلم أولوياته، هو حزب مستقبلي بلا أدنى ريب.
***
ظل فتحي مُعوّلاً على الشباب مِعْولا لبناء الوطن. فقد دعم حركة قرفنا الشبابية في العقد الثاني من هذا القرن دعما كبيرا. وأضحى من أكبر مناصري لجان المقاومة إبان ثورة ديسمبر المجيدة. إن هذا التعويل الكبير على الشباب، بمثابة خروج على الكبار، الذين شكلوا المدينة بما لا يشتهي.
***
ذات نقاش فيسبوكي، اتهمنا فتحي، نحن في منتدى شروق الثقافي، بأننا لا نقبل النقد. فجئته ببعض الدلائل التي تشير إلى عكس ذلك، ولكنه لم يتنازل عن رأيَه. بعد مرور سنوات من ذلك النقاش، صرت أرى، الآن، أن في كلامه شيء من الصحة، إن لم يكن كثيرها.
لسبب ما، حرص فتحي على أن يخبرني بأن للأستاذ الحاج وراق أياد بیضاء علیه، إبان إقامته في كمبالا قبل عقد ونيّف من الزمان. قال لي ذلك بما یشبه الأمانة. یبدو أن الأستاذ قد ساعده في بعض مشاریعه. لاحقا، وبسبب وجود كادر ظاهر “الجنجوة” ضمن طاقم صحيفة “الديمقراطي”، وربما لأسباب أخرى، شن فتحي ھجوما شديدا على الحاج وراق والصحیفة.
عندما تقابل فتحي وجھا لوجه، يبدو خجولا، كالعروس في خدرها، غير أنه يفاجئك بصراحته اللاذعة. أذكر أنني قابلته، بعد نحو خمس سنوات من انتخابات 2010م، فسألني مستنكرا عن مؤازرتي البروف عبد الله علي ابراهيم في محاولته الترشح لرئاسة الجمهورية. في ذات تلك الانتخابات كان فتحي مؤازرا نشطا للأستاذ ياسر عرمان. ولكنه من بعد ذلك، وفي ملابسات انسحابه من الانتخابات، وربما لأشياء أخرى، خرج فتحي على ياسر خروجا داويا.
***
لم يكن فتحي كشاعر الشعب محجوب شريف، الذي “خرج من الإعلام” بمقاطعة جميع الصحف في عهد الإنقاذ، بما فيها صحيفة الميدان! ، باعتبار أن التعاون مع الصحف يساهم في التضليل بالحرية الزائفة!!
اختار فتحي “الخروج على الإعلام” في ميدان الصحافة. فقد عمل في عدد من الصحف، وخرج على الجميع.
حاول فتحي من خلال تراسه لتحرير (موقع كتابك الإخباري) أن يترجم المبادئ التي يؤمن بها عمليا ، وأن يبني خطا تحريريا واضحا ضد نظام الإنقاذ، مما أدى الى اعتقاله. بعد أن خرج من السجن، وخرج من الوطن مؤقتا أضحى رئيسا لتحرير مجلة (سماوات) الورقية التي صدر منها عدد واحد.
لاحقا أمسى فتحي ضمن فريق تحرير صحيفة (الشاهد) الالكترونية. وقد أسهم مساهمة فاعلة في توجيهها في خدمة ثورة ديسمبر ومناوئة المكون العسكري وبقايا النظام البائد.
صاغ فتحي ذات مرة خبرا، من ثنايا مقابلة أجريت مع الصحفية، الموصولة بالسلطات المصرية، أسماء الحسيني، أبان فيه المجمل في حديثها وأضاء المضمر. فإذا بأسماء الحسيني تنكر حديثها ثلاثا، وتهاجم صحيفة (الشاهد) . نقلت لفتحي مؤاخذة له على ما جرى، فقال إن ما جرى يستحق التكريم لا المؤاخذة!
خرج فتحي على صحفيي الإنقاذ والصحفيين الأحرار المناوئين للإنقاذ. فقد شن هجوما، في ذات معركة في موقع سودانيز اونلاين، على جملة الصحفيين الثوار!!!
فبعد أن سجل فتحي لهؤلاء الصحفيين اعترافا بأنهم لا يعملون لحساب أهل المؤتمر الوطني بشكل مباشر، وأنهم يحملون نوايا شديدة الخلوص لقضايا الوطن والمواطن . إلا أنهم وفقا لفتحي وكما تقول الحقائق الأولية البديهية داخلون مع الإنقاذ في عقد [معقد!!] من تبادل (وتوازن!!) المصالح. فلكي تكون كاتب عمود تتقاضى مرتبا يضاهي مخصصات الدستوريين، يجب أن تلتزم بالمناشير التي ترد من حين إلى آخر إلى صحيفتك، تقضي بعدم تناول الموضوعات المتعلقة بكذا وكذا. ولكي تتمتع كناشر وصاحب صحيفة بنصيب وافر من إعلانات الجهات الحكومية، يجب أن تلتزم إلى هذا الحد أو ذاك بجداول وقوائم أمنية .. وتساءل فتحي : لماذا يكون أمر إيقاف صحيفة السوداني (صحيفة محجوب عروة وعثمان ميرغني) ضد الحريات الصحفية، في نظر هؤلاء الصحافيين الميامين؛ بينما لا تحظى باحتجاج مماثل الأوامر العديدة بمنع جميع الصحف من تناول (أمور) بعينها. ونبه فتحي أنه تحت غبار إيقاف صحيفة السوداني، وانشغال الصحفيين بها، ارتفعت ضريبة القيمة المضافة بهدوء شديد من 10% إلى 12% لتمتص ما بقي من دم (ومخ عظام) الشعب السوداني.
وقد دافع صحفيون آخرون، عن وجهة النظر الأخرى، بقدر من المنطق والموضوعية.
فتوح الأرقام والحروف.:
يتمتع فتحي بذكاء رياضي وذكاء لغوي منقطعي النظير، ولكنه ربما لم يكن يتمتع بذكاء اجتماعي بذات القدر. قد يكون فتحي قاسيا بعض الشيء على خصومه، بل وأصدقائه، في بعض الأحيان، بيد أنه لم يكن منافقا على الإطلاق. كما أن محبته لشعبه لا تضاهى.
إن فتحي البحیري نابغة في علم الریاضیات. ظھر نبوغه إبان دراسته في مدرسة محمد حسین الثانویة العلیا بأمدرمان.
أخبرني الأخ ولید سیوري، أنهم عرفوا من فتحي امتحان الریاضیات السنوي الذي یقام بجامعة الخرطوم لطلاب الثانوي. شارك فتحي في ھذا الامتحان، وحذا طلاب المدرسة حذوه.
ويُحكى أن أستاذا بمدرسة العلوم الریاضیة، لعله الدكتور محمد عبدالوھاب، كان لا یسمح بدخول الطالبات والطلاب بعد بدایة محاضرته. وذات مرة بعد أن دخل القاعة وبدأ المحاضرة، جاءت مجموعة من الطالبات متأخرات فأرجعھن على أعقابهن، وجاء طلاب ولم یسمح لھم بالدخول. وبعد حين، من أقصى المدينة جاء فتحي يسعى، ویتصبب عرقاً، فطرق باب القاعة، فسُمح له بالدخول! وواصل الدكتور محاضرته، وفي أثنائھا، كتب مسألة على السبورة. وسأل : من یحل المسألة؟ ولم ینبس أحد ببنت شفة، عدا فتحي، الذي رفع یده متصديا. كرر الدكتور السؤال مرات، والطلاب كأن على رؤوسھم الطیر! وفي نھایة المطاف أعطى الفرصة لفتحي، الذي حل المسألة وفي زمن وجیز! بعدھا قال الدكتور : أعرفتم لماذا سمحت لفتحي بالدخول دون الآخرین؟ وأجاب حتى تجدوا من یشرح لكم إن لم تفھموا مني!!
إن نبوغ فتحي جعله يستشرف الآفاق البعيدة، ويمتطي الدروب غير المطروقة.
كان فتحي أحد مؤسسي (المدرسة الإلكترونية السودانية) ونائبا لمديرها العام. وقد عمل فتحي بجانب المدير العام مكي الأحمدي، وطاقم المدرسة، على إنجاح تجربة رائدة في انفتاح التعليم على الفضاء الإسفيري، لتوفر نظام تعليم ديناميكى غير مقيد بالحدود المكانية والزمانية. ولقد فازت المدرسة في العام 2009م بجائزة أفضل منتج إقليمى من منظمة “جائزة القمة العالمية” (World Summit Award) من بين 545 عمل مرشح من 157 دولة. إنه إنجاز غير مسبوق في ظل إمكانات مادية شحيحة!
يقول عمر كتة صدیق فتحي السیاسة والإعلام حرما السودان من عالم ریاضیات فذ! وأضاف عند فتحي أبحاث في الریاضیات واجتهادات في مسائل غیر مثبتة!
ربما خسر السودان عالم رياضيات كبير، ولكن ولع فتحي بعلم الأرقام والاحتمالات والأشكال الھندسیة تسرب في ثنايا روایته “اكفھرار”.
كان الراوي الرئيس صلاح في (اكفهرار) مغرما بالعد والإحصاء، مثل راوي بشرى الفاضل في “حكاية البنت التي طارت عصافيرها” الذي حكى حالة تطاير العيون من أركان حافلة المواصلات وهطولها على جسدي البنتين الجميلتين، مما جعل محاجر الركاب تبدو كالملاحات الفارغة، ولحسن حظ الراوي منعت نظارته الطبية عينيه عن الإقلاع ، مما مكنه من تصوير المشهد. ولما كانت للراوي متعة إحصاء فذة، فقد وجد أن بجسديهما تسعاً وتسعين عينا مستديرة وعجب أول الأمر للرقم الفردي والتفت وراءه فوجد أن أحدهم كريم عين، أو كما قال.
یقول صلاح شارحا خطة نفيسة لتزويجه برتاية (لا أحسبھا إلا أنھا حاولت أن تحلنّا أنا ورتایة الحاج كمعادلتین آنیتین یكمن حل كل منھما لدى الأخرى).
وفي مكان آخر يقول (الأدھى من كل ذلك یا اصدقاء. من شاء فلیؤمن ومن شاء فلیكفر. كانتا تنجبان في كل مرة ثلاثة أطفال. تتئم ھذه عندما تفرد تلك. والعكس).
وحكى صلاح (خرجنا ثلاثتنا من غرفتنا بلحظة واحدة. نظرتا لتسعة أطفال یمرحون ببیتنا. وضعتا أكفا أربعة بأعین ست. غطت كل منھما عینیھا بید وبید عیني. قرأتا (قل ھو ﷲ أحد) والمعوذتین سبعا. ثمنتا بالفاتحة. ثم آية الكرسي خمسا. وقالتا لي : ستسحر اولادنا مثل ما سحرتنا. قالتا : ستسحر اولادك مثل ما سحرتنا).
إن “الاكفھرار” الذي أخذت منه الروایة اسمھا، نجده في قول الراوي صلاح متحدثا عن نفیسة كباشي (كانت تعبر عن استیائھا ورفضھا وقرفھا من أي صورة أو حدث بتقلیصة عجیبة وقبیحة بأنفھا. الأنف الذي كان طوله آنذاك أربعة سنتمترات، كان یستحیل فجأة إلى كرة (مكرفسة) قطرھا أقل من سنتیمتر واحد. لا تسألوني كیف؟ وتساعده بزم شفتیھا الرقیقتین وتقطیب الجبین وإطلاق ومیض دھاق بالمعنى والإرادة والتصمیم من عینین عسلیتین ودودتین … فیما بعد حینما توغلت في دراسة الصرف وتعرفت على كلمات وتصریفات مثل اضمحل واشرأب واكفھر .… لم أجد تصویرا لمعنى “الاكفھرار” سوى ما تصنعه نفیسة كباشي بأنفھا).
وأضحت عبارة (تسوي الاكفھرار) حاضرة في منعرجات الروایة. تعلمت رتایة الحاج كیفیة “الاكفھرار” وصلاح نفسه یسوي “الاكفھرار”. وسنرى أن فتحي، خارج الرواية، قد سوّى لنا “الاكفهرار”!
وقد كان فتحي ممسكا بناصية اللغة يصوغ حروفها أشعارا وروايات ومقالات. وينحت الكلمات نحتا لتعطي المعنى، مثلما نحت الفعل “يتنفسج” في رواية (اكفهرار) إذ قال (رأیت یومھا وجه نفیسة كباشي بنت العاشرة یحمرّ ویزرقّ ویتنفسج).
أو استخدامه لمفردات مبتكرة مثل “التطويس” و” العصفرة” في رواية (مياه إقليدية) حين يقول (كانت قدماها في الواقع تلمسان سطح الشارع لمسا أشبه بلمس صفاف محترف على لوحة مفاتيح كمبيوتر وهما تدحرجان جسدها إلى الأمام برقة وسلاسة وفراشوية ممعنة في التطويس والعصفرة).
…
ونواصل
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة