د. أحمد التيجاني سيد أحمد
الفاشر ليست مجرد مدينة، بل عنوان لحقبة كاملة من السيادة والكرامة السودانية. منذ أن استقر فيها السلطان علي دينار، كانت فاشر السلطان عاصمةً لمملكة دارفور المستقلة، ومنارةً للتاريخ والسيادة والعدل. واليوم، تُستباح هذه المدينة العريقة من قِبل ميليشيات الإسلام السياسي، والمرتزقة، وجيوش الغزاة المحليين والدوليين، في مشهد يتحدى الضمير الإنساني، ويعيد إلى الأذهان أسوأ فصول الاستعمار والاستبداد.
فاشر السلطان: عاصمة الممالك وسيدة التاريخ
شهدت الفاشر في العصور الإسلامية المتأخرة ازدهارًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وكانت بوابة السودان الغربية إلى إفريقيا. نهضت سلطنة دارفور من هذه المدينة، وجعلتها مركزًا إداريًا وتنظيميًا متقدّمًا سبق كثيرًا من أقاليم السودان الأخرى. لم تكن تابعة للخرطوم، بل كانت نِدًّا لها.
الفاشر تحت وطأة البغاة: من الكيزان إلى أدوات الهدم
لم تسقط الفاشر في يد الغزاة فجأة، بل تم إنهاكها وتفكيكها على مدى عقود، بدءًا من انقلاب الحركة الإسلامية في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، حين وُضعت دارفور على هامش الدولة، والفاشر في مرمى مشاريع التخريب المقصود.
دخل الكيزان إلى الفاشر ليس فقط بالسلاح، بل بمشروع خبيث لاختراق المدينة من الداخل مشروعٌ استخدم الدين غطاءً، والتكافل الاجتماعي وسيلةً للتمكين، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى منظومة أمنية واقتصادية متكاملة تتحكم في أرزاق الناس وتفاصيل حياتهم.
تفكيك البنية الاجتماعية
• تم تسييس القبائل وتحويلها إلى أدوات ولاء.
• زُرعت الشكوك بين أبناء الحي الواحد، والعائلة الواحدة.
• اختُرقت الزوايا الصوفية والمراكز الثقافية، وأُفسدت شبكات العمل الأهلي التقليدي.
تحطيم الدورة الاقتصادية المحلية
انتشرت في الأطراف أحزمة البؤس والنزوح.
وفي قلب السوق، انتعش اقتصاد التهريب والمضاربة المدعوم من أجهزة أمنية وشخصيات كيزانية نافذة.
أُقصي التجار التقليديون، وأُغرِق السوق بسلع مشبوهة وشبكات تمويل مرتبطة بتمكين الإسلاميين.
تمزيق الأخلاق وتشويه الوعي
فُرض خطاب ديني متشدد غريب عن تديّن الفاشر الهادئ.
تم قمع الأصوات المثقفة، وخنق الفن، وإقصاء المرأة.
وتحوّلت المؤسسات التربوية إلى مصانع للعسكرة والتلقين العقائدي.
تحالف الإسلاميين والمليشيات: دروع بشرية لإبادة الفاشر
منذ اندلاع الحرب، لم تكن الفاشر ساحة قتال بين جيشين متكافئين، بل ميدانًا لجرائم مركبة نفذتها مليشيات الإسلام السياسي وحلفاؤها من الحركات المسلحة، عبر استخدام المدنيين دروعًا بشرية، وتحصين المواقع العسكرية داخل الأحياء السكنية، والمرافق الصحية، وحتى داخل الأسواق وخزانات المياه.
مارست هذه المليشيات كل صنوف الانتهاك :
• إطلاق النار من داخل بيوت المدنيين ثم تصوير الرد العسكري كجريمة.
• تخزين الذخائر في المدارس والمستشفيات والمساجد.
• حصار المواطنين ومنعهم من النزوح، لاستخدامهم لاحقًا كرهائن إعلامية وسياسية.
كل ذلك جرى بتغطية إعلامية وتبريرات دينية من بقايا الحركة الإسلامية، التي تسعى لتحويل الفاشر إلى وقود في معركتها الخاسرة لاسترداد السلطة. وهكذا، تحوّلت المدينة إلى رهينة في يد مشروع دموي لا علاقة له لا بالثورة، ولا بالتحرير، ولا بالوطن.
المقاومة الشعبية من قلب الفاشر في قلب الجحيم، أظهرت الفاشر معدنها الأصيل.
لم تكن المدينة مجرد ضحيةللعدوان، بل كانت وما زالت، ساحة مقاومة متواصلة، رغم الحصار الخانق، والدمار، ونقص الغذاء والدواء. تكاتف أهلها، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، فيملحمة بطولية، أدهشت العدو قبل الصديق.تشكلت لجان المقاومة في الأحياء، وظلّت تنقل المعلومات، وتُؤمّن المدنيين، وتقاومالحرب النفسية التي تنشرها الميليشيات. كوادر طبية ظلّت تعمل فيالمستشفيات المدمرة، تحت القصف، دون أجور، ودون حماية. شبابٌ سقطواشهداء وهم يحاولون حماية الجرحى، أو تهريب الأسر العالقة.نساء الفاشر كنّ جبهة قائمة بذاتها في الطهي الجماعي، في إسعاف الجرحى، في إيواء النازحين. ومع ذلك، تعرّضت الفاشر لواحدة من أبشع حملات الانتهاكات الجنسية والترويع الجسدي في التاريخ الحديث.
العدو لم يكن يفرّق بين عسكري ومدني، بين مسجد ومشفى، بين شيخ وطفل. ومع ذلك، لم تنكسر الفاشر.
الفاشر وسودان التأسيس
في مشروع تحالف تأسيس، لا تُعامل الفاشر كمدينة منكوبة فقط، بل كعاصمةرمزية للثورة السودانية الجديدة.
الفاشر تمثّل الامتحان الأخلاقي والسياسي لأي مشروع وطني: إن لم يُنصف الفاشر، فلا قيمة له.نحن لا نتحدث عن إعادة إعمار فنيّة فقط، بل عن عدالة تاريخية: مساءلة المجرمين، وعدم مكافأتهم باتفاقيات هشة. إحياء الذاكرة الجمعية، وتوثيق جرائم الاستباحة بكل دقة. إشراك أهل الفاشر في صياغة مستقبل السودان، من موقع الندّ، لا التابع.الفاشر تستحق أن تكون منبرًا لصياغة العقد الاجتماعي الجديد، لا ملحقًا فيذيل الخرطوم.
خاتمة: رسالة من دار السلطان إلى نخب السودان الفاشر لا تركع.
هذه ليست مجرد عبارة عاطفية، بل حقيقة تاريخيةتتكرر في كل مرحلة. من علي دينار إلى لجان المقاومة، من ساحاتالأسواق إلى خنادق الحصار، أثبتت الفاشر أنها أكبر من أن تُكسر.
رسالتها واضحة: لن يكون هناك سودان جديد إن لم يُبْنَ منالأطراف، من المدن التي دفعت ثمنًا مضاعفًا، من الفاشر والجنينة ونيالا وكتم.
إلى نخب المركز، وإلى من يدّعون القيادة:
الفاشر تراقبكم، وتحاسبكم، ولن تنسى. ولن تسامح من صمتوا عن المذبحة، أوتواطأوا مع القتلة، أو ساوموا على دمها.الفاشر ليست بضاعة سياسية، بل قضية وطن.
المصدر: صحيفة الراكوبة