اخبار السودان

عودة مصر إلى مواجهة ما تجنبته في السودان

حاولت مصر تجنب بعض القضايا التي أفرزها اندلاع حرب مريرة في السودان، ومع أن موقفها كان واضحا في تأييد الجيش ورفض ممارسات قوات الدعم السريع، إلا أنها حاولت القيام بوساطة متوازنة بينهما من خلال آليات إقليمية محددة، وتحاشت القاهرة إثارة ما يمكن أن يعكّر صفو علاقتها بالمؤسسة العسكرية السودانية، وقبلت بالتعامل مع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وحكومته بالشكل الذي يحافظ على الأمن القومي ويمنع امتداد الحرب إلى حدود مصر الجنوبية.

حملت نتائج زيارة البرهان إلى القاهرة واللقاء مع الرئيس عبدالفتاح السيسي أخيرا تغيرا في الموقف الرسمي المعلن، وكانت هناك عودة إلى ما حاولت مصر عدم مواجهته أو الصمت عليه، بسبب ظروف الحرب وتطوراتها، وما أحدثته من اهتزازات في بنية المؤسسة العسكرية النظامية بالسودان.

وبعد أن استرد الجيش السيطرة على الخرطوم وولايات أخرى وشرعت قواته في أن تصبح أكثر تماسكا من ذي قبل، جاءت المكاشفة المصرية المؤجلة صادمة، ويمكن الحديث عن ثلاثة ملفات، أثارت مخاوف في القاهرة، ربما لم يتم التطرق إليها بالصراحة التي شهدتها زيارة البرهان إلى مصر قبل أيام.

القاهرة تخشى أن تؤدي براغماتية البرهان إلى تكرار انتهازية الرئيس السابق عمر البشير حيث كان ينفتح على جهة ويخاصم أخرى ويعود إلى الأولى وقادت هذه السياسة إلى فقدان السودان مصداقيته

الملف الأول: تضخم دور الحركة الإسلامية في السودان داخل الجيش، وهو موقف مزعج جدا لمصر التي لها رؤية ثابتة ورافضة لأيّ تنظيم عقائدي داخل المؤسسة العسكرية في أيّ دولة عربية، ووضعت جماعة الإخوان على لائحة الإرهاب في مصر، وهي التي تمثل عصب الإسلاميين في السودان، وابتلعت أو تفهمت حسابات البرهان الداخلية معهم خلال الفترة التالية لاندلاع الحرب ضد قوات الدعم السريع، وأحرزت فيها الثانية تفوقا ميدانيا كبيرا.

وعقب تفوق الجيش وضبط جزء معتبر من موازين القوى، لجأت القاهرة إلى الحديث بوضوح أكثر حول انزعاجها من تعاظم دور الميلشيات الإسلامية في الجيش السوداني، وتزايد دور المنتمين للإخوان في صفوفه، من القيادات والكوادر، وامتداد ذلك إلى مؤسسات مدنية عديدة، في مقدمتها التحكم في مفاتيح وزارة الخارجية.

وما يؤكد أن هذا الملف احتل  مساحة في حوارات البرهان بالقاهرة، أنه فور عودته تحدث بقوة من مدينة بورتسودان (يوم الثلاثاء) عن عدم وجود دور لهذا التيار، في إشارة توحي بالاستجابة لمطالب القاهرة، والتي تضع ملف تغلغل الإخوان في السودان ورغبتهم العارمة في العودة إلى السلطة ضمن اهتماماتها الرئيسية، فليس من المنطقي أن تقبل بقفز الجماعة مرة أخرى على الحكم في الخرطوم، أو تستسلم لخدعة ثانية بعد حيلة الرئيس السابق عمر البشير وحلفائه مع ما سمّي بـ”ثورة الإنقاذ” عام 1989، حيث تمّ إخفاء الوجه الإسلامي في بداية هذه الثورة.

لا أحد يعلم، هل يستطيع البرهان التخلص من الجناح الإسلامي حوله، وهل يتم ذلك بضربة واحدة أم تدريجيا، وهل سيتجاهل الأمر كله عندما تبرد نتائج زيارة القاهرة، فبراغماتية الرجل المفرطة تجعل الملف مفتوحا على احتمالات مختلفة، لكن المهم أن مصر، وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، لن تقبل بعودة الإسلاميين إلى السلطة، وإذا رفض أو تحايل قائد الجيش على ذلك ربما يواجه تحديات أكبر، ويكتشف سريعا أن صمت مصر على نفوذ الحركة الإسلامية الفترة الماضية لا يعني القبول بها.

الملف الثاني: فتحت القيادة المصرية مع رئيس مجلس السيادة السوداني ملف البحر الأحمر وتداعياته، والذي تضاعف الجدل بشأنه مع تلويح الخرطوم من حين إلى آخر بتدشين قاعدة بحرية لوجستية لروسيا على سواحله، وسواء أكان التلويح سوف يتحول إلى حقيقة أم هو مناورة لمغازلة الولايات المتحدة، ففي الحالتين لا ترتاح القاهرة إلى هذه المسألة، التي يمكن أن تجلب صراعا كبيرا للقوى الكبرى في البحر الأحمر، ويزداد الوضع تأزما مع وجود رئيس أميركي يوظف المعطيات الإقليمية لصالحه.

التعامل المصري مع السودان يحتاج نوعية جديدة من السياسة والرؤية المحددة، فما كان قبل الحرب لم يعد نافعا بعد اندلاعها، ولن يصبح صالحا عند توقفها مستقبلا

نأت القاهرة عن تقديرات واشنطن حول آليات التعامل الأميركي مع تهديدات جماعة الحوثي في اليمن، وتعرضت لضغوط مادية باهظة بسبب بطء حركة المرور في قناة السويس، وأخرى معنوية بسبب مطالبة الرئيس دونالد ترامب بمرور سفن بلاده من خلالها “مجانا”، وهو ما قابلته مصر بتجاهل حتى الآن، متوقعة حدوث سخونة في هذه القضية، ولا تريد أن تكون توجهات الخرطوم نحو تعاون عسكري مع موسكو منغصا يوسع نطاق المنغصات الدولية في البحر الأحمر.

وما دفع قيادتها إلى الحديث بشفافية مع قائد الجيش السوداني خوفها أن تفتح مناوراته بورقة روسيا الباب إلى مناورات مضادة أشد وطأة، في وقت لا يزال هناك شوط  طويل أمام السودان كي يسترد عافيته، وتخشى القاهرة أن تؤدي براغماتية البرهان إلى تكرار انتهازية الرئيس السابق عمر البشير، حيث كان ينفتح على جهة ويخاصم أخرى، ويعود إلى الأولى، وقادت هذه السياسة إلى فقدان السودان لجزء كبير من مصداقيته، وفي عصر ترامب تزداد الأمور فداحة، ولم تعد هذه السياسة مجدية كثيرا.

الملف الثالث: يتعلق بالتهديدات التي لوّحت بها قوات الدعم السريع بشأن اجتياح الولاية الشمالية، القريبة من الحدود الجنوبية لمصر، ومهما كانت المنطلقات الداخلية للتوجهات العسكرية لقوات الدعم، يمكن أن تلحق أذى بالأمن القومي المصري، فكل الترتيبات الأمنية التي اتخذتها المؤسسة العسكرية جنوب البلاد لن تفلح في صد الفوضى التي يمكن أن تعم شمال السودان، إذا نفذت الدعم السريع تهديداتها، وكان من الضروري إيجاد تعاون لمنع امتداد الحرب إلى حدود مصر الجنوبية.

غير معروفة طبيعة التعاون بين البلدين في هذه المسألة، لكن مراعاتها في الوقت الراهن عملية عاجلة، تجنبت مصر إثارتها بعد اندلاع الحرب منذ أكثر من عامين، لأن التطورات العسكرية كانت في معظمها محصورة في ولايات بعيدة عن الحدود، ولم تكن هناك انزعاجات مباشرة.

يحتاج التعامل المصري مع السودان نوعية جديدة من السياسة والرؤية المحددة، فما كان قبل الحرب لم يعد نافعا بعد اندلاعها، ولن يصبح صالحا عند توقفها مستقبلا، فالعلاقة بين البلدين ذات طابع إستراتيجي، وشابتها تجاذبات أفضت إلى عدم توظيف المزايا التي ينطوي عليها التقارب الجغرافي، وأفرغتها مزايدات بعض القوى المدنية في السودان من مضامينها.

كما أثر تعامل القاهرة الأمني في أوقات كثيرة مع الأنظمة الحاكمة في الخرطوم على طريقة تطوير العلاقات، وعندما بدأت تتفجر مشكلات، مثل الحرب في السودان وسد النهضة الإثيوبي وأمن البحر الأحمر، ولم يجد الجانبان وسيلة سياسية ناجحة للتعامل مع أيّ منها، وثمة عملية مراجعة تهدف إلى إعادة صياغة مسودة جديدة لوضع قواعد لتطوير العلاقات لتجاوز تحديات المرحلة المقبلة.

العرب

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *