عودة إلى إشكاليات رواية المقريزي للبقط 4
د. أحمد الياس حسين
الأوضاع في صعيد مصر عند الفتح الإسلامي
نظراً لعدم توفر معلومات عن حملة عبد الله بن سعد على النوبة ووصوله مدينة دنقلة ، ولكي نتمكن من التعرف على تلك الحملة بصورة أكثر وضوحا أرى أن الإجابة على سؤالين مهمين تساعد على إلقاء بعض الضوء عليها.
السؤال الأول: كيف كانت الأوضاع في صعيد مصر عندما بدأت غزوات المسلمين المبكرة على منطقة أسوان؟
والسؤال الثاني : يتعلق بالطريق المفترض الذي سلكته حملة عبدالله بن سعد من صعيد مصر حتى وصلت دنقلة
*********
تعرفنا في الموضوع السابق على وجود البليميين كعنصر فاعل ومشاركتهم البيزنطيين السلطة في منطقة ما بين الأقصر وأسوان في صعيد مصر. ونتابع هنا التعرف على أوضاع الصعيد. فإلى جانب البليميين ذكرت المصادر العربية عدداً من الأجناس عند دخول المسلمين مصر.
كان سكان مصر إبان الفتح الإسلامي خليط من الأجناس، كما عبر المقريزي (ت 845 هـ/ 1445 م):
“أعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على جنسين متباينين في أجناسهم وعقائدهم. أحدهما أهل الدولة وكلهم الروم … وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية. والقسم الآخر عامة أهل مصر، ويقال لهم القبط ، وأنسابهم مختلفة ، لا يكاد يتميز منهم القبطي، من الحبشي ، من النوبي ، من الإسرائيلي الأصل ، من عيره ، وكلهم يعاقبة … وبينهم وبين الملكية العداوة” (المقريزي ، تاريخ الأقباط ص 89) .
وتناول الوافدي (ت 207ه/823 م) سكان الصعيد بقوله : “لما فتح عمر بن الخطاب مصر والاسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط.” فالمصادر العربية بينت بوضوح وجود النوبة في صعيد مصر إلى جانب الأجناس الأخرى.
ويلاحظ أن المقريزي أشار إلى الحبش بين سكان مصر. ومدلول كلمة حبش في المصادر العربية واسع لا يقتصر فقط على بلاد الحبشة (اثيوبيا الحالية) فالمقريزي (المواعظ ، الوراق ، ج 1 ص 248) ذكر أن البجة “قبيلة من الحبش” ويبدو مقبولاً أن يكون البليميون في صعيد مصر جزء من الحبش الذين ذكرهم المقريزي.
المريــس
ذكرت المصادر العربية أن صعيد مصر كلن يعرف باسم “مريس” فقد ذكر المسعودي أن “أهل مصر يسمون أعالي الصعيد إلى بلاد النوبة” مَرِيس. (ج 2 ص 18 و22) وكان أسم “مريس يطلق على المنطقة وسكانها. فقد أوضح اليعقوبي “ان عجم مصر جميعاً القبط، فمن كان بالصعيد يسمون المريس” وعن مدينة اسنا ، التي تقع على بعد 55 كم جنوب الأقصر ، في صعيد مصر ذكر أنه “يقال إن أهلها المريس”. (اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ج 2 ص 40 و42) ووردت نفس الاشارات تقريبا عند المقريزي حيث فقال : “كان أهل مصر يسمون من سكن من القبط بالصعيد المريس”[1] وعن مدينة الأقصر ذكر “هذه المدينة من مدائن الصعيد العظيمة ، يقال : إنّ أهلها المريس ، إنّ أهلها المريس” (المواعظ ج 1 ص161 و254) .
ولم يكن إطلاق اسم “مريس” منحصراً فقط على صعيد مصر بل كان ممتدّاً إلى الجنوب من أسوان حتى قرية بستو شمال مدينة دنقلة كما أوضح ذلك ابن سليم (في المقريزي ، ج 1 / ص 537) حيث ذكر أن قرية : “بيستو هي آخر قرى مريس ، وأوّل بلد مقرة.” فإقليم مريس جغرافيّاً وسكانيّاً يمتد من صعيد مصر شمالاً حتى الشلال الثالث جنوباً ، وسكان هذا الإقليم من القبط والنوبة يعرفون بالمريس.
فبلاد مريس كانت منقسمة إلى قسمين: القسم الشمالي تحت الادارة البيزنطية يقاسمهم البليميين (البجة) إدارة بعض المناطق ويعيش فيه النوبة مع غيرهم من الأجناس. والقسم الجنوبي من بلاد مريس هو مملكة النوباد التي تمتد حدودها حتى الشلال الثالث .
النوباد (Nubatae)
ورد أول ذكر لكلمة Nubae أوNūba (النوبة) في القرن الثالث قبل الميلاد حيث ذكره إراتوستين Eratosthene (276196ق م) الذي كان أمينا لمكتبة الإسكندرية ، وعنه نقل سترابو (63 ق م 24م) ذكر أن Nūba النوبة يسكنون الضفة اليسرى من النيل ، وأوضح أنهم قبيلة كبيرة تمتد من مروي جنوباً (مروي القدية شمال مدينة شندي) وحتى انحناءة النيل شمالاً. وأنهم ليسوا تحت حكم المرويين بل ينقسمون إلى ممالك مستقلة متعددة.
وقد تمكن إراتوستين بحكم عمله من الاطلاع على المؤلفات السابقة له والتي كتبت عن مروي والمناطق الواقعة جنوبي مصر مثل كتابات داليون وسيمونيد الذي يقال انه زار مروي ومكث فيها عدة سنوات. لذلك يمكن اعتبار أن ما كتبه إراتوستين عن الأوضاع في السودان راجعاً إلى ما قبل القرن الثالث ق.م. وقد وصلت إلينا كتاباته عبر ما نقل عنها كما فعل سترابو. ولذا يمكن اعتبار وجود كلمة “نوبة” في منطقة غرب السودان أقدم من القرن الثالث ق م.
ويرى بدج ، كما نقل عنه ماكمايكل ، أن النوباد Nubatae قبيلة بدوية قوية ، موطنها الأصلي كردفان ودارفور ، وكانوا قد انتشروا شمالاً حتى الواحة الخارجة. وفي القرن الثالث الميلادي استقروا على النيل في أرض مريس في النوبة السفلي جنوب منطقة البليميين. (Michael, vol. 1 p 25) وقد رجح بعض المؤرخين أن يكون النوباد هم نفس سلالة النوبا الذين هجموا على مروي في القرن الرابع قبل الميلاد وأضعفوها. وعند الاشارة إلى النوباد تستخدم الكلمات : Nobades وNubae وNobatae وNoba كمترادفات وصف بها سكان الصحراء الغربية.
ونمت قوة النوباد إلى جانب البليميين وتحالفوا معاً ضد الرومان. فقد ورد في بردية ترجع إلي الربع الثاني من القرن الخامس الميلادي أن أسقف فيلة وجه نداءً للإمبراطور البيزنطي لحماية كنائسه من غارات البليميين والنوباد. فأرسل الامبراطور Marcianus (450457 م) حملة كبيرة انتصرت على الحليفين ووقعت معهما معاهدة عدم اعتداء لمائة عام ، وسمح لهم بمقتضاها زيارة آلهتهم في معبد جزيرة فيلة بجوار أسوان. وانسحب البليميون جنوبا واتخذوا من كلابشة (Talmis) عاصمة لهم ، بينما انسحب النوباد إلى الجنوب من البليميين متخذين من إبريم شمال وادي حلفا عاصمة لهم) مصطفي مسعد ص19 و36 و(Torok, 1989, 404; Mac Michael, vol. 1 p 25
أسس النوباد مملكتهم في القرن السادس الميلادي على يد زعيمهم سلكو واتخذوا مدينة باخورس (فرس) عاصمة. وتوسعت المملكة بعد هزيمة البليميين في الشمال ومنافسيهم في الجنوب، وتلقب سلكو بلقب “ملك النوباد والاثيوبيين (Mac Michael, vol. 1 p 27) وأصبحت حدود مملكته ممتدة من أسوان شمالآ حتى الشلال الثالث جنوبا.
وبدأ دور النوباد المهم في المنطقة منذ منتصف القرن السادس الميلادي حيث بدأت الأوضاع في النوبة السفلى في التغير عندما اعتنق النوباد المسيحية على المذهب اليعقوبي على يد ثيودور أسقف فيلة وأسوان 526 581 معام 543 م. (مصطفى مسعد 57 63) وتحسنت علاقة النوباد بالبيزنطيين، فقد وعد الامبراطور البيزنطي جستنيان عام 524 م ملك اكسوم بإرسال جنود بليميين ونوباد من صعيد مصر لمساعدته في حروبه ضد مملكة حمير. (Torok, 1987, p 240) ويدل ذلك أيضاً على أن حدود النوباد في صعيد مصر فقد كانت حدودهم السياسية في منطقة أسوان، أما من ناحية السكان فقد امتدت حدودهم شمالاً في أرض مريس في جنوب مصر.
النوبة
بدأ تواصل المسلمين بالنوباد مع بداية فتح مصر في معاهد عمرو بين العاص لأهل مصر. فقد جاء في المعاهدة : “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر … ولا يساكنهم النُّوب … ومن دخل في صلحهم [صلح أهل مصر] من الرّوم والنّوب فله مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن أبى واختار الذّهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ، أو يخرج من سلطاننا … وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً ، وكذا وكذا فرساً ، على ألاّ يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة” (الطبري، ج 2 / ص 363) .
ويبدو أن الروم والنوبة كان لهم وجود وأثر واضح في مصر لدرجة تضمنهم المعاهدة. الروم المقصود بهم اليونانيين والرومان. فقد بدأ استقرار اليونانيين في مصر منذ غزو الاسكندر المقدوني لمصر عام 332 ق م ، ثم خضعت مصر لحكم الأسرة البطلمية اليونانية حتى عام 31 ق م حيث خضعت مصر للإمبراطورية الرومانية ثم للإمبراطورية البيزنطية ذات التوجه اليوناني. وفي هذه الفترة الطويلة ، نحو ألف سنة ، بين القرن الثالث ق م والقرن السابع الميلادي ظل استيطان اليونانيين والرومان مستمرّاً وهم الذين عرفوا في المصادر العربية باسم الروم.
أما “النوب” فهم النوبة ، إذ جاء في لسان العرب: “قال أبو حنيفة : ومريس أدنى بلاد النوب التي تلي أرض أسوان”[2] كما ذكر الجاحظ أن “النوبة هم المريس المجاورون لأرض الإسلام.” ويوضح هذا أن “النوبَ” بفتح الباء وبدون تاء في آخر الكلمة كما ضبطها الزبيدي أعلاه هم النوبة. وقد جاءت كلمة النوب مرادفة النوبة في آخر نص صلح أهل مصر.
ويرُدّ هذا بوضوح على ما وقع فيه لين بول من لبس إذ اعتقد أن “النوب” في نص الاتفاق يراد بهم الجنود الرومان. وقد ناقش بتلر ذلك باستفاضة وبين خطأ لين بول الذي رأى أن “نوب” في النص تشير إلى الجنود الرومان. وتوصل بتلر مستنداً إلى أدلة تاريخية أن “النوب” في النص يراد بهم النوبة. لكنه لم يتعرض لما ورد في المصادر العربية من ترادف كلمتي النوب والنوبة. (Butler, p 39 43)
ويلاحظ أن صلح أهل مصر تضمن عدداً من البنود تخص النوبة , فقد تضمن الآتي :
- ولا يساكنهم النوب (لا يساكن النوبة المصريين)
- من دخل في صلحهم [صلح أهل مصر] من الرّوم والنّوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم
- ومن أبى [الدخول في الصلح] واختار الذّهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا.
- وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً، وكذا وكذا فرساً
- على ألاّ يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
فما ورد عن النوبة في معاهدة أهل مصر يوضح الوجود النوبي الواضح في مصر. ونحن هنا لسنا بصدد التوقف مع هذه البنود للتعرف على حقيقة ذلك الوجود النوبي والإجابة على الكثير من الأسئلة المتعلقة بهم مثل: هل شارك النوبة البيزنطيين في مفاوضات الصلح مع المسلمين؟ ومن هم النوبة الذين “لا يساكنون أهل مصر؟” ومن هم النوبة الذين إذا دخلوا في الصلح يعينوا المسلمين بالخيل والبقر ويأمنوا طرق التجار ولا يغزوا المسلمين؟ مثل هذه الأسئلة تتطلب دراسة منفصلة وقد تمت الإشارة إليها مع بعض التفضيل في (أحمد الياس 2012 ج 2 ص 157 168)
فالمسلمون تعاملوا مع النوباد مبكراً في صلح أهل مصر ، وأطلقوا عليهم اسمهم الذي وجدوه في المنطقة والذي أصبح “النوبة” في اللسان العربي. فيكون اسم “النوبة” في المصادر العربية المبكرة راجعاً إلى النوباد الذين دخلوا منطقة النيل قبل أربعة قرون من فتح المسلمين مصر ، وانتشروا في المنطقة الواقعة بين الشلال الثالث جنوباً وصعيد مصر شمالاً وأصبحوا يشكلون ثقلاً سكانيّاً واضحاً في جنوب مصر حتى اختلط الأمر على رواة الطبري حيث ذكر : ” أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات” (الطبري : 310ه/932)
ونواصل
المراجـع
- أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، الخرطوم: مركز بناء الأمة للبحوث والدراسات، 2012.
- اليعقوبي، كتاب البلدان، موقع الوراق
- الزبيدي، لسان العرب، موقع الوراق.
- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، موقع الوراق
- مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية: مجموعة النصوص والوثائق الحاصة بتاريخ السودان في العصور الوسطى، الخرطوم: جامعة الفاهرة بالخرطوم 1973.
- مصطفى محمد مسعد، الإسلام والنوبة في العصور الوسطى: بحث في تاريخ السودان وحضارته حتى أولئل القرن السادس عشر الميلادي، القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، 1961.
- المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، القاهرة: مكتبة مدبولي 1998
- المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، موقع الوراق
- المقريزي، تاريخ الأقباط المعروف اثيوبيا الحالية بالقول الإبريزي للعلامة المقريزي، دراسو وتحقيق عبد المجيد عابدين بيروت: دار صادر ب. ت
- الواقدي، فتوح الشام، بيروت: دار الجيل ب. ت.
- Arkell, A.J., A History of the Sudan from the Earliest times to 1821, London: The Athlone Press 1961.
- Butler, Alfred J., 1913, The Treaty of Misr in Tabary an Essay in Historical Criticism, Oxford
- Strabo, Geography Book xvii, Cambridge, 19 17. (online) Mac Michael, H. A., A History of the Arabs in the Sudan. London: Frang Cass & com. Ltd. 1976.
- Torok, L., 1989, “Notes on the Kingdom of the Blymmyes” Studia Aegyptiaca. XII, p 397412.
- Wacher, John, ed., The Roman World, London: Rutledge, 2002.
[1] المقريزي، “المواعظ والإعتبار”، ج1 ص161 موقع الوراق [2] لسان العرب، ج1 ص315
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة