عمر عديل من نبلاء الدبلوماسية السودانية
صديق محيسى
من نبلاء الدبلوماسية السودانية “كتاب جديد
عن عمر عديل حرره السفير جمال محمد ابراهيم
ثلاثة اصدارت فرغت منها هذا الشهر الأول” مؤانسات فى ادب الرسائل “للكاتبين الراحل عمر جعفر السورى والسفير جمال محمد ابراهيم دار باركود للنشر والتوزيع , والثانى عن “عمر عديل من نبلاء الدبلوماسية السودانية ” لجمال ابراهيم عن دار مدارات للنشر , والثالث “مشاهدات من سيرتى الذاتية ” لعابدين محمد على صالح عن دار “باركود ” والكتابان “مشاهدات ” “وعمرعديل” يصنفان من جنس السّير الذاتية , اما الكتاب الأول فهو من جنس ادب الرسائل الذى لم يكن موجود اصلا فى الثقافة السودانية فأحياه فى هذه الألفية جمال ابرهيم , وعمر السوّرى , واهمية اصدارات اثنتين منها انها تؤرخ لأزمان وتواريخ مختلفة مر بها السودان مثل مذكرات بابكر بدرى , ومخائيل بخيت , وحسن نجيله ذكريات فى البادية , وملامح من المجتمع السودانى و”اشتات الذكريات لخليفه عباس “وسندباد من السودان لأحمد حسن مطر و”كان ماكان” للفكى عبد الرحمن , وقطار العمر “للاعلامى محمد خير البدوى وازمنة الريح والقلق والحرية لحيدر ابراهيم على , وخريف الفرح لعبد الرحمن مختار و”صحفى بلا حدود” ليوسف الشنبلى ثم “اوراق صحفية من جده الى كوبر” لسيد احمد خليفه” وربما تكون هناك اصدارات اخرى لم اذكرها بالنسبة لهذا الجنس من الأدب , على كل فان المذكرات فهى تعكس ظرفا تاريخا معينا مرتبطا بمهنة صاحبها , ولكنها ايضا تسلط الضوء على الواقع الأجتماعى الرسمى والأهلى على السواء فى ذلك الزمن , وسوف نبدا بتقديم كتاب عمر عديل يليها كتاب مؤانسات فى ادب الرسائل , ثم استعراض كتاب هوامش على متن الحياة لعابدين محمد على صالح .
على خلاف ماكتب من مذكرات بأقلام اصحابها تولى السفير جمال محمد ابراهيم كتابة مذكرات عمر عديل نيابه عنه وبموافقة اسرته , وفى لفتة مقدرة ينتبه لرموز سودانية ضاعت سيرتها وسط دوامة الضجيج الغوغائى الذى رافق حياتنا الأجتماعية والسياسية ولايزال , ويعزز ذلك مانراه من حرب دموية خلطت الأوراق فغيّبت الذكاء ليحل محله الغباء , وتراجع العلم ليحل محله الجهل , واذا كانت نظرية الأصطفاء النوعى التى كانت تقوم بها الطبيعة حيث البقاء للاصلح دائما , فأن مايحث فى السودان حاليا العكس تماما فهو البقاء للجاهل حامل البندقية والموت الموت لحامل الكتاب.
تميّز عمرعديل على غيره فى مسيرته الحياتية بكونه تقلد اكثر من وظيفة فكان “حكمدارا ” فى الشرطة , ثم موظفا بالسكة الحديد , فالجمارك , حتى وقع عليه الأختيار ليشرف على الأمانة العامة لأول مجلس سيادة بعد استقلال البلاد , وبحكم هذه الخبرات المتنوعة كلّف بالتدقيق والتصنيف لملفات الأدارة البريطانية بعد رحيلها فأشرف على تحويلها الى وكالة بأسم الشئون الخاصة فى خطوة اولى لقيام وزارة الخارجية نفسها , وحتى جرى ابتعاث اول دبلوماسيين للخارج كان فى مقدمتهم عمر عديل الذى عيّن سفيرا فى ايطاليا , ثم بعد ذلك تم نقله الى نيويورك مندوبا دائما للسودان فى هيئة الأمم المتحدة , وهناك سطع نجمة كصوت افريقى بارز متصديا ومطالبا بضرورة نيل الأستقلال لدول العالم الثالث التى كانت رازحة تحت نير الحكم الأستعمارى ولكنه اعطى افريقيا اهتماما خاصا قبل ان يكون لها صوت يدافع عنها فى المنظمة الدولية.
فى غمرة الصراع بين شعوب القارة والأستعمار وبداية قيام حركات تحرر فيها , خاض عمر عديل اول معاركه داخل المنظمة الدولية من اجل الأستقلال الكامل لجمهورية الكنغو المستعمرة البلجيكية والتى قاوم البلحيكيون الخروج منها حتى يضمنوا استمرار نفوذهم فى بلد مشهور بثرواته , وفى ظل تجاذبات الحرب الباردة بين القطبين الأتحاد السوفييتى والمعسكر الراسمالى وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمركية كان مطلوب من اى دبلوماسى فى ذلك الزمن ان يمتلك من الثقافة السياسية المسنودة بالشجاعة والجرأة ان يشّكل موقف بلاده من القضايا المطروحة بل تقع عليه هوالمسئولية الأولى فى اقناعها باتخاذ ذلك الموقف .
كانت قضية استقلال الكنغو الشائكة اولى المعارك التى خاضها عديل فى حياته الدبلوماسية فقد استقلت (الكونغو عن بلجيكا في 30 يونيو 1960م تحت اسم «جمهورية الكونغو»,وانتُخب الزعيم الوطني الكونغولي باتريس لومومبا أوّلَ رئيسٍ للوزراء ، وجوزيف كازافوبو أوّلَ رئيس للجمهورية) ولكن صراعا داميا على ادارة الجمهورية الوليدة تخلل هذه القضية حتى عرفت باسم “أزمة الكونغو” وحتى تماطل بلجيكا فى تنفيذ قرارات المنظمة الدولية بحق تقرير المصير لشعب الكونغو جرى تدبير مؤامرة مزدوجة بين المخابرتين الأمريكية والبلجيكية لأنفصال مقاطعة كاتانغا ومقاطعة جنوب كاساي عن الجمهورية الأم لتصبح تحت حكم عميلهم موييس تشومبي بعد رفضت الأمم المتحدة والحكومات الغربية طلبات لومومبا لمساندة موقفه وكان المغدور قد اعلن بأنه مستعد لقبول مساعدة أي دولة في الأزمة حتى من الاتحاد السوفييتي وهنا تنبهت الولايات المتحدة وبلجيكا وأشرفتا على إزالته من منصبه على يد كازافوبو في الخامس من سبتمبر ثم جرى إعدامه فى مؤامرة دولية على يد قوات كاتانغية بقيادة بلجيكية بتاريخ 17 يناير عام 1961م.
تمددت اهتمامات عمر عديل المندوب الدائم للسودان فى الملف الأفريقى من اجل تحرر اقطارها فشمل ذلك انجولا , وروديسا , وجنوب افريقيا , ولم يفت عليه وهو يترأس المجموعة الأفريقية ان يصدر بيانا عام 1959م يطالب في بالأفرج عن المناضل الشاب نليسون مانديلا الذى سجنه النظام العنصرى فى بريتوريا بعد جولة افريقية له كانت الخرطوم من بينها , فمنحه نظام عبود جوازا دبلوماسيا ليساعده على الحركة لشرح قضية بلاده , ولكن اخذ عليه انه بعد نيل بلاده استقلالها زار العديد من الدول ليشكرها ولكنه لم يزر السودان .
يواصل جمال انه بعد اغتيال همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة فى سيتنات القرن الماضى تم التدول حول عدد من الأسماء التى كان من المتوقع ان يتم ترشيحها لتولى منصب الأمين العام بالوكالة الى حين انعقاد الدورة “16” كان من بين المرشحين عمر عديل مندوب السودان وهو مايؤكد ويعزز تفوق الرجل فى زحمة العشرات من دبلوماسى العالم .
ضمن دفاعه عن حق الدول الافريقية فى تقرير مصيرها اولى عديل قضية الجزائر اهتماما خاصا لكونها بلد عربى يقع فى الخارطة الأفريقية ففى 19/12/1961 القى خطابا انتقد فيه عملية ادراج مسألة الجزائر فى كل دورات المنظمة الدولية منذ عام 1959م نالت فيها نقاشا مستفيضا تناول الحرب الكلونالية فيما تكرر عن التعبير عن العمل فى التوصل الى حل ينهى هذه الحالة المأسوية ولكن ماطلت كثيرا فى الموافقة على اعطاء هذا البلد حق تقرير مصيره .
وحسب تسلسل الأحداث كانت فرنسا متخوفة ان يتعرض المعمرين الفرنسيين والأوربيين للانتقام اذا ما خرجت القوات الفرنسية من البلاد غير ان فرحات عباس رئيس الوزراء للحكومة المؤقتة اكد اكثر من مرة عدم تعرض هؤلاء الى اى عمليات انتقام , وقال ان الجزائر ام للجميع وانكم عبر اجيال عديدة خلت كنتم تعدون انفسكم جزائريين فمن سيسحب منكم تلك الهوية؟ وفى مداخلاته حول الموضوع ضرب عديل مثلا بقوله ان مئات الالاف من الأوربيين يعيشون فى المغرب وتونس وليبيا ولم يتعرض لهم احد فمن ثم ان هذه الحجة غير مقبولة اصلا فى هذا الشأن. وقد استعرض الكتاب دفاع عديل فى كل كلماته التى تتعلق بحق تقرير المصير لكل دول القارة الأفريقية الرازحة تحت نيرالأستعمار , وكان بذلك يعبر عن موقف بلاده فى هذا المحفل الدولى .
من استعراض الكتاب لحياة الرجل وشخصيته الأستثنائية فى عالم الدبلوماسية العالمية فأنه لايقل شهرة عن شخصيات شبيهة مثل هنرى كسينجر , ودين رسك , وسايروس فانس , ولا شبيه له سودانيا سوى منصور خالد , جمال محمد احمد , عابدين اسماعيل .
لم تمض سنوات على كاريزماه العالمية حتى كانت قاصمة الظهر فى ثورة الحادى والعشرين من اكتوبرعام 64 التى اطاحت حكم عبود العسكرى عبر شعارات “التطهير واجب وطنى ولا زعامة للقدامى” فكان عمر عديل احد اهم ضحاياها , ففى وسط الصخب الشعبى السياسى انهيت مهمتة كمندوب للسودان , وكتبت حكومة الثورة للمنظمة الدولية بأن عديل لم يعد ممثلها , وكان وقع هذ الطلب ثقيلا على الذين يعرفون الرجل وفى مقدمتهم الأمين العام للمنظمة الدولية.
حسب مانقله جمال ابراهيم موثق السيرة “الغيرية” لعديل فأن المنظمة الدولية لم تتخل عن هذه الكفاءه , فقد اصدر يونانت امينها العام قرارا بتكليف عديل لما له من خبرات وقدرات بالاشراف على انتخابات جزر كوككوك (تم تسميتها على اسم المستكشف جيمس كوك مكتشف نيوزيلندا والساحل الشرقي من أستراليا) الذي أصبحت محمية بريطانية سنة 1770م وتم نقل إدارة الحكم إلى نيوزيلندا في سنة 1900م وفي سنة 1965م اختار السكان المقيمين الاتحاد الحر مع نيوزيلندا فأنجز عديل هذه المهمة على اكمل وجه مما جعلت الأمين العام يفكر مرة اخرى فى الأستفادة من عديل فى مهام جديدة , فكانت المهمة هذه المرة فى محمية عدن فى اليمن الجنوبى .
(فقد سيطر البريطانيون على عدن عام 1839م عندما قامت شركة الهند الشرقية بإرسال مشاة البحرية الملكية إلى شواطئ المدينة وكانت تحكم كجزء من الهند البريطانية إلى سنة 1937م عندما أصبحت مستعمرة بحد ذاتها تابعة للتاج البريطاني. كانت عدن أكثر تقدما وعمارا ونسبة التم كانت مرتفعة بين سكانها نتاج الإدارة الإنجليزية للمدينة ، و(ظهرت حركات مقاومة مثل جبهة التحرير القومية المدعومة من جمال عبد الناصر وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل واستمرت هجمات الفصائل حتى إنسحبت القوات البريطانية عن عدن في 30 نوفمبر 1967م وقد ساعدت تقارير عمر عديل المنظمة الدولية فى اجراء الخطوات التى ستكمل حق تقرير المصير لليمن الجنوبى , وفى الختام وبعد هذا الأيجاز المختصر لمضمون الكتاب لانملك الآ ان نشيد بهذا العمل التوثيقى العلمى الكبير الذى قام به الباحث جمال محمد ابراهيم الذى ارّخ لعصر كان فيه الراحل عديل نجما مشعا بين العشرات من نجوم الدبلوماسية العالمية.
المصدر: صحيفة الراكوبة